المشاركات الشائعة

الاثنين، 27 ديسمبر 2010

الفلاسفة والحب
د. سعيد بوخليط



هل الفلاسفة يعشقون ؟ أي تساؤل هذا ! بقدر ما يبدو تافها وبدون معنى، على اعتبار أن الفلاسفة هم أولا وأخيرا جنس ينتمي لبني البشر. وبالتالي، يمتثلون للحكايات البيولوجية ذاتها وإن بشكل حر أكثر. فإن السؤال في الجوهر استشكالي وعميق جدا، يوحي بمجموعة من التأويلات تتأسس انطلاقا من تمازجات أولية، يكشف عنها تضمين الفلاسفة نصوصهم لعبة الحب. هناك، إشارات واضحة بذاتها:
* من الثابت أن الفيلسوف يحب الفلسفة : أي أنه يطوي العالم بين ثنايا جمجمته. والفلسفة هي الجسد، العقل؛ المرأة؛ قهوة الظهيرة؛ جريدة الصباح؛ الشعر، الفيزياء، الآخر... بمعنى يكفيك أن تكون فيلسوفا لكي تتحول إلى عقل كوني. لكن كذلك من الضروري التأكيد أيضا، رفعا لكل لبس :
* لا يجب اختزال الحب هنا إلى عشق رجل / فيلسوف لامرأة من خلال السياق نفسه للثقافات الاجتماعية. لذلك، حينما يتحدث أو يكتب الفيلسوف عن الحب فإنه يخترق القوالب والتنميطات لتلك العلاقة الثنائية الشبقية الإيروسية أساسا، بين جنسي المذكر والمؤنث.
* حتى وإن اتفق الفيلسوف، على أن موضوع الحب هو المرأة. فلا شك أن طبيعة تفكيره ورؤياته، تدفعه إلى صياغة ممكنات لا نهائية لهذه العلاقة.
* لم تتحدث سير الفلاسفة كثيرا عن حكاياتهم مع العشق. مسألة، سيشير إليها الباحث في تقديمه لعمله هذا. حيث يصعب وضع اليد على مادة زاخرة تغني موضوعنا، وتطعمه فحصا وتدقيقا. مع ضعف المتن إذن، وقلة النصوص يجدر بالباحث في تاريخ الحب عند الفلاسفة أن يكون ذكيا فطنا حاضر البديهة. حتى يسبر الفقرات المنثورة هنا وهناك عند هذا الفيلسوف أو ذاك، لكي يستخلص ما يشفي غليله في هذا الإطار. إنه الأفق المفهومي الذي أراد من خلاله الباحث سوفاني Sauvanet الاشتغال على هذا الموضوع (*) الشيق واللذيذ، المرتبط بسيناريو إخراج مجموعة صناديد وأساطين الفكر البشري، من امبراطورية الفيلسوف بجغرافيتها الصارمة وتعاليها المتعجرف. ووضعهم داخل غرف اعترافات، لا يريد منها سوفاني أن تكون سريرية أو ليلية، ولكنها بالأحرى حميمية بأسلوب " رخو" " لين" " سلس"، لا يؤكد مؤسساتيا ذلك الفصل بين مفهومية وبرهانية الخطاب الفلسفي ثم الإنسيابية الحلمية للآخر الأدبي. لماذا؟ لأنه حينما نقرأ مباشرة النصوص الأصلية للفلاسفة الذين جاء بهم العمل، وبالرغم من كونها تقارب موضوعا ذا طبيعة وحس ذاتيين مرهفين أكثر، إلا أنها قد تميزت بتعقيدها النظري. صحيح أن تعليقات سوفاني يسرت شيئا ما من ذلك، حتى ولو ظلت مدرسية مكتفية بمقاربات مباشرة لمجمل الأفكار التي انطوت عليها النصوص، مع توضيحات يسيرة جدا عن بعض المعطيات السوسيوثقافية أو السوسيونفسية التي صاغت مواقف بعض الفلاسفة وتأصيلهم المفهومي، أي اللاوعي النصي المرتبط أساسا بموقف معين حيال هذا الفيلسوف أو ذاك. من خلال نماذج نصية توزعتها زمانا ومكانا مدارس فلسفية: أفلاطون / أرسطو/ لوكريس / ديكارت/ سبينوزا/ باسكال/ جان جاك روسو / كيركجورد/ شوبنهاور/ نيتشه/ سارتر، سعى الباحث سوفاني إلى تقديم القارئ بهذا النموذج المصغر لتاريخ الفلسفة، عرضا عن كيفية تفكير الفيلسوف في موضوع العشق. كيفما كانت الرؤية والتقييم، فإنهم جميعا ينتهون إلى هذا العشق اللانهائي لشيء إسمه : الفلسفة. قد يسود الاعتقاد منذ أول تفكير، بأن هناك تعارضا بين الحب والفلسفة، بين العاطفي والعقلي، الحسي ثم المجرد. هكذا يتوخى صاحب هذا العمل، التدليل على أن شعور الحب ليس بغريب عن الاندفاع والـتأمل الفلسفيين. كما أنه لا يدخل في إطار اشتغالات الموضة: (هل من الضروري التذكير بأن الفلسفة ليست في الواقع إلا عشقا للحكمة. بمعنى حينما لا نملكها، فإننا ننزع باستمرار نحوها ؟ وفي الواقع، إذا لم نكن نعلم دائما بأننا حكماء، فإننا نعرف على الأقل بأننا عاشقون) ص 5. قد يظهر شكل الفيلسوف العاشق أكثر قربا من الفيلسوف. يشير الباحث إلى ندرة البيبليوغرافيا بخصوص موضوع الفلاسفة والحب. وقد عبر شوبنهاور عن دهشته في هذا السياق قائلا : ((انفعال يلعب دورا من المقام الأول في كل الحياة الإنسانية، لم يتم بعد أخذه بعين الاعتبار من قبل الفلاسفة وسيظل بالتالي أرضا مجهولة إلى حد الآن) ص5. ربما موضوعة الحب كما يراها الفلاسفة، قد لا تبدو على الأرجح عندهم جادة بما يكفي لكي تتم معالجتها فلسفيا. التوظيف الفلسفي لفعل عشق، يحيل بلا شك على اندفاع وقوة ذاتية. لذلك : (من اللازم أن نأخذ على محمل الجد في الواقع نقطة جوهرية مشتركة بين فعل عشق وكذا فعل تفلسف: إنه ليس حالة بل سيرورة. من خلال عشق أو تفلسف، فإننا نرحل ونبحر ولا يمكننا العودة إلى الوراء، ننزع بلا توقف اتجاه شيء أو شخص ما. على هذا النحو، أمكن لأفلاطون اللجوء إلى الإتيمولوجيا المتخيلة للإيروس Eros على حساب نموذج ريو Rheo، ذلك الذي ينساب مثل مجرى) ص6/7. في هذه الشروط، يقوم الرهان المشترك للحب، وكذا الفلسفة كحب لصوفيا Sophie على انزياح بل خلخلة لمركزية وتمركز الذات. حيث سيظهر هذا الإشكال الموضوعي والفلسفي بامتياز، حينما سترتبط وترتكز مسألة الحب على هذا الشيء الذي يمكنه الانفلات مني، بعد أن يتم التجاذب بين الذات والآخر. إن ما يهم سواء في الفلسفة أو الحب، هو هذا التوتر اتجاه شيء ما سواء كان شخصا أو فكرة أو مثالا. لم يتكلم كل الفلاسفة عن الحب، وإن فعلوا ذلك تمثلوه طبعا بطرق وتصورات مختلفة. يقول المؤلف عن برنامج اختياره للنصوص: ((نتحمل هنا التنوع الكبير لبنية ونبرة ثم أسلوب النصوص المختارة. من نص إلى آخر، مع تغير للسياق والمفاهيم. في كل آن ننتقل من سرد أسطوري إلى عرض فلسفي، مع القصيدة الكبيرة للأبيقورية حتى رسالة حميمية من رجل ناضج، إلخ. هل سيكون من جديد " شذرات خطاب عاشق" حسب العنوان الجميل ل رولا بارت؟ خيوط كثيرة مرشدة، لا تلاحظ بالتأكيد من الوهلة الأولى، تعيد ربط شكل خفي هذه الإحدى عشر نصا كبيرا والتي من بينها : * مفهوم أرسطوفان للحب/ الإيروس: " كل واحد يبحث عن نصفه". وهو ما سنجده أيضا من بين أشياء أخرى عند أفلاطون، ديكارت، كيركجورد شوبنهاور ثم سارتر. * انبعاث السيرة الذاتية في شكل فلسفي عند لوكريس، ديكارت، روسو وكيركجورد. * وأخيرا، نجد فيما وراء البحث عن ماهية مفتقدة للحب (باسكال)، العشق ذاته للعثور عن الجوهر الفلسفي ) ص 8/9 . شهادات ، تخول مقاربة نظام تيماتيكي يتطور وينمو معه مفهوم الحب وفق نماذج متعددة تتحدد في التعارض بين : + الجنسية المثلية ثم المتغايرة الجنس Hétérosexualité : نص أفلاطون. + العاطفة الأبوية والإبنية، الحب والصداقة : أرسطو /روسو. + الوجد العاشق: لوكريس /شوبنهاور. + حب يتجه إلى الإله : أرسطو / سبينوزا / باسكال/ كيركجورد. + عشق الجمال، وبالأخص الموسيقى: نيتشه. + التجاذب الشعوري حيال الآخر : سارتر. على المستوى الكرونولوجي، نلاحظ تشكل ثلاثة حقب تشتغل على النماذج التالية من النصوص :
(1) تمكن النصوص الأولى من مقاربة الحب قديما، ارتباطا بالأسطورة والصداقة والسيمولاكرات وكذا الهوى. حيث سيظهر الحب كمبدأ فعال وقوة كونية مثل الإله إيروس عند أفلاطون أو الإلهة فينوس Vénus عند لوكريس.
(2) نصوص تتابع مختلف نظريات الحب في العصر الكلاسيكي، حيث شغل الحب موقعا مركزيا في نظرية الانفعالات عند ديكارت ، سبينوزا، وكذا فلسفة روسو. أما باسكال ، فإنه يمثل هنا وجها متفردا للفكر.
(3) نصوص تعطي نظرة أكثر حسية لحالة الحب، بناء على أفق وجودي بالمعنى الواسع للمفهوم في القرنين 19 و 20 : كيركجورد وسارتر. كما يستدرك الباحث الإشارة إلى شيئين أساسيين بخصوص عمله هذا:
(1) لم يستحضر إلا الفلاسفة الذكور. وبالتالي، لا نعثر في عمله هذا على أية وجهة نظر نسائية. لكن مع ذلك، تحضر المرأة وراء تنظيرات : ديكارت (ملكة السويد كريستين christine)، روسو (السيدة وورنس Warens)، كيركجورد (ريجين أولسن Olsen)، نيتشه (لوأندرياس سالومي Salomé)، سارتر (سيمون دي بوفوار). أما المتون التي اعتمد عليها الباحث لاستخلاص التعاريف، فهي: إيروس فيلسوف (أفلاطون)/ حب وصداقة (أرسطو)/ ديكارت عاشق (ديكارت)/ تعريف للحب (سبينوزا) / هل هناك حب للأنا؟ (باسكال) / حب، حب ـ خاص حب ـ الذات (روسو) / الحب حسب الاسترجاع (كيركجورد )/ ميتافيزيقا الحب (شوبنهاور) / يجب أن تتعلم الحب (نيتشه)/ نظرة الآخر (سارتر). كان الاعتقاد قديما، بأن الطبيعة الإنسانية مختلفة عما هي عليه اليوم نظرا لوجود ثلاثة أنواع من الكائنات: المؤنث والمذكر ثم آخر مركب ومزيج من الاثنين أو الأندروجين Androgyne كما سماه أفلاطون في كتابه المأدبة: Le Banquet. لهذا لن تكون تجربة الحب إلا محاولة لإعادة توحيد الكائن الإنساني الذي تم تقسيمه فيما مضى عقابا له من قبل الآلهة حتى يتم إضعافه، لأنه كان يهاجمها نظرا لما يتمتع به من قوة عجيبة خارقة وتحليه بشجاعة كبيرة. الحب مداواة للطبيعة الإنسانية، حيث لا يتوارى كل واحد منا سواء كان رجلا أو امرأة، للبحث بدون كلل عن نصفه الأصلي والتخلص من حكم عقاب التشطير الذي صدر عن الإله زيوس Zeus. تقوم إذن أسطورة أندروجينا Androgyne على مفهوم الحب / الانصهار. يدخل الحب جوهريا وأساسيا عند أفلاطون وفق هذا التصور، في باب الرغبة والافتقاد وكذا الغياب أو اللاـ اكتمال والل ـ اإشباع، مما يؤكد بأنه إشارة ودعوة وقوة ونزوة، فللإيروس قوة جذب. لتفسير ذلك، من الضروري الالتجاء إلى أسطورة أندروجينا التي تحدث عنها سقراط في خطاب أرسطوفان تحت قناع ديوتيم Diotime. وللإشارة فإن خطاب أرسطوفان، شكل الخطاب الرابع من كتاب المأدبة لأفلاطون الذي اشتمل على ستة خطابات أخرى هي :
(1) فيدر Phèdre ،(2) بوزانياس (3) إريكسيماك éryximaque (4) أغاتون Agathon (5) ديوتيم Diotime (الذي تكلم على لسان سقراط) (6) ألسيبياد Alcibiade. يبدو بأن الحب بين الرجل والمرأة، يتطابق وينسجم مع الطبيعة. فالإنسان يميل فطريا لتشكيل ثنائي، حتى قبل تأسيس المجتمع السياسي في نطاق كون العائلة تعتبر شيئا سابقا عن المدينة وأكثر ضرورة منها. لكن إضافة إلى هذا النوع من الارتباط العاطفي، يحاول سقراط البحث في درجات ومستويات الحب الأبوي، من خلال كون الآباء يحبون أبناءهم لأنهم شيئا منهم. كما أن الأولاد بدورهم يحبون آباءهم لأنهم ينبثقون منهم. حب يشبه تعلق الناس بالآلهة، نظرا للشعور ذاته الذي نحس به اتجاه كائن أعلى أفضل منا. يندرج الميدان الخاص للحب عند أرسطو في المنظور المزدوج للإتيقا والسياسة داخل عمله الموسوعي ورؤيته العلمية الثاقبة لأشياء كثيرة وحقول متعددة : المنطق /الميتافيزيقا / الفيزياء/ التيولوجيا/ السيكولوجيا / الإتيقا / السياسة/ الريطوريقا/ البويطيقا. لا يحمل حقل الحب عند أرسطو نفس الدلالة كما هو الحال مع أفلاطون، فالفيليا philia الأرسطية ليست هي الإيروس الأفلاطوني. مع العلم أن ما يسميه اليونان عامة ب " الفيليا" يتضمن كل أشكال الحب والعاطفة بالمعنى الواسع للكلمة. مميزين بين أربعة أنماط من الفيليا Philia: (الفيليا الطبيعية أو الأقاربية بين كائنات من نفس الأسرة. فيليا الضيافة بخصوص الآخر، بين الضيوف. فيليا ودية تنسجم مع " صداقتنا". ثم فيليا عاشقة، مثل العلاقة المتميزة بين الرجل وزوجته) ص29 . وضع أرسطو ترتيبا لأنواع العاطفة، محللا ومفسرا طبيعة المشاعر التي تحضر سواء عند الأبناء أو الآباء مع اختلاف في التقدير. ذلك أنه سيسهل على الآباء أن ينسبوا الأبناء إليهم انسجاما مع المبدأ الذي يؤكد، بأن من يصنع يعرف جيدا ما أنتج والعكس غير صحيح. نشير أيضا إلى العاطفة الأفقية بين الإخوة والأخوات، التي تختلف وتتمايز عن النموذج العمودي من خلال طبيعة العلاقة بين الأبناء والآباء. أما عن الحب الزواجي فإن : (أرسطو Aristote، الذي تزوج مرتين. كان من بين أول الفلاسفة القدامى، الذين أطروا على الزواج كسبيل للفضيلة واكتمال الذات عبر الآخر) ص 32. فالإنسان حيوان سياسي واجتماعي، لكن العلاقة الأولى التي تفرزها الطبيعة هي تلك القائمة بين الرجل والمرأة. فالحب بينهما يتطابق وينسجم مع الطبيعة، لأن الرجل يميل فطريا إلى تشكيل زوج ثنائي، أكثر مما يفكر في بناء مجتمع سياسي. أما الصداقة والتي تحمل دلالة، سواء في الثيولوجيا الأرسطية وكذا أنثروبولوجيته، فقد عمل أرسطو على جرد مختلف أنواع الصداقات، بتمييزه بين ثلاثة أنواع من الصداقة حسب قيامها على: (المنفعة، اللذة، أو على الفضيلة. وحده النوع الثالث الذي يتوخى مغزى جيدا يكون جديرا بالاعتبار. صداقة تقوم كما هي حتى ولو تم انتفاء السبب. فوق ذلك، تضمن تبادل القدوة بين الأصدقاء. بتعابير كانطية، فإن الصداقة الحقيقية هي تلك التي تتعامل مع الصديق كغاية وليس وسيلة) ص34. لكن فيما تختلف العلاقة بين الصداقة والحب؟ يتميزان أساسا بغياب وكذا حضور العنصر الفيزيائي. من جهة ثانية، نصطفي الأصدقاء ويختارنا الحب. كما أن الحب يمثل بشكل من الأشكال نوعا من الصداقة المبالغ فيها. بعد ذلك، سيقف الباحث سوفاني عبر فيلسوف يوناني قديم آخر اسمه لوكريس على وجهة نظر ثانية بخصوص أحاديث وتمثلات الفلاسفة للحب، يتعلق الأمر بأبيقور ورؤية الأبيقورية بهذا الخصوص، التي أكدت على ضرورة تعلم الحكيم كيفية التمييز بين الرغبات الطبيعية الضرورية، ثم الطبيعية غير الضرورية وأخيرا اللاطبيعية واللاضرورية. نجد في المقام الأول، الحاجة إلى الأكل والشرب، حيث على الحكيم الاكتفاء بما يسد حاجته لكي يعيش: (ليس الأبيقوري بمتأنق في الأكل، بل هو ببساطة إنسان أي آكل كل شيء، وبشكل أفضل زاهد. كما كتب موليير: " يجب أن تأكل لكي تعيش، وليس أن تعيش لكي تأكل" ص 43. وكذا بما يحميه ويستره على مستوى اللباس، وليس من الضروري أن يكون الأمر وفق نماذج الموضة. ويقوم في إطار الطبيعية وغير الضرورية الملذات الجمالية التي تتأتى من الرنات والأشكال الجميلة سواء إلى الأذن والبصر وحتى أجمل الروائح التي يستنشقها الأنف : (تصطف خصوصا الملذات الجمالية التي تمنحها أحلى الرنات للأذن، وأحسن الأشكال للنظر، وكذا أطيب الروائح للأنف ( تحدث لوكريس عن لذة الروائح 864-855). هنا أيضا، المغالاة كمجازفة إيتيقية : يعرف الأبيقوري بأن هذه الملذات ليست مطلقا ضرورية. إنه ليس إذن جماعا أو متذوقا للجمال، وهو ما ينطوي على نزوع نحو استيعاب بلا حدود أو تهذيب مرضي. لكنه يعرف بهدوء كيفية تذوق هذه الأشياء حينما تكون حاضرة) ص43. كما يمكن أن نضيف إلى هذا الصنف الغرائز الجنسية، والتي اعتبرها لوكريس مع أبيقور بأنها حتى وإن كانت طبيعية، فهي ليست ضرورية أو أساسية: (هنا أيضا، يجب أن نرى جيدا وحدها التجاوزات وكذلك نتائج تلك التجاوزات مذمومة بالمعنى الدقيق لذلك : من الضروري أن يتم إشباع الرغبة الجنسية عند الحاجة لكن في حدود ومع أي كان. إذا كانت فيزيولوجيا جد ضاغطة، فقد خول لنا لوكريس " أن نقذف السائل المتراكم عندنا في أول جسد يتأتى لنا". أفضل من الاحتفاظ به لأجل حب وحيد. نكرر إذن : ليس الأبيقوري بصاحب لذة، لأن البحث عن المتعة لذاتها يخلق توترا بلا هدف، حلقة مفرغة بدون نهاية. الأبيقوري كذلك ليس هائما، أسيرا أمينا لحب وحيد. حينما يدرك الهوى على هذا المنوال، فإن ذلك يقيد حركة الإنسان الحر. الأبيقوري حكيم واع كثيرا بالطبيعة الإنسانية، حيث تشكل داخلها فعليا الرغبة الجنسية جزءا. يجب إذن التعامل معها إذن كما هي ليس أكثر " متعة جامحة، شغف أعمى" أو أقل " تقشف متكلف" ص 44. المجموعة الثالثة، التي صنفها الرواقيون تتضمن رغبات غير طبيعية وليست ضرورية مثل الطموح وتوخي القوة والتطلع إلى الغنى والمجد. تكمن الأطروحة الأساسية لأبيقور ومعه لوكريس في : (تخليص النفس من اضطرابات الشهوة (...). الطبيعة في مجموعها يمكن تفسيرها عقلانيا دون حاجة إلى استدعاء الآلهة كمبدأ خارجي. هذا التفسير يتوخى أن يكون ماديا بشكل محض: كل الأشياء والكائنات الحية في الكون يمكن تصورها باعتبارها تجميعا أو دمجا لذرات المادة (ننسى أحيانا بأن الذرية ليست اختراعا حديثا)، هذه الذرات تتمازج فيما بينها حسب قواعد فيزيائية متعددة، يستوقفنا هنا بالخصوص مبدأ الانحراف، الذي يمكن من تفسير تغيرات شكل المادة ) ص 44/45. استنادا على أرضية فكرية ومنطلقات إلحادية ـ حيث كانت الفلسفة الأبيقورية كذلك ـ حاول لوكريس إعطاء وصف شبه علمي للحب والقطع مع كل تصور أسطوري أو ديني، بحديثه عن حضور لعبة السيمولاكرات: ( ما نحبه أو نراه، هي أولا وقبل كل شيء سيمولاكرات الإنسان المعشوق. ما يمكنه أيضا أن يفرض نفسه سلبيا : ذلك الذي يحولنا إلى عبيد من خلال الشغف، إنها ليست إلا سيمولاكرات. في حين إيجابيا : يمكننا اختيار سيمولاكرات أخرى غير تلك المرتبطة بشغف وحيد) ص 45/46. نتذكر بأن نظرية الرؤية عند اليونان، تؤكد على أن بعض ذرات المادة تعمل على إثارة العين، وليست هذه الأخيرة التي تتجه للمادة. تطبيقا لهذه النظرية بخصوص الحب فإن ما نراه ونحبه هو ألا وقبل كل شيء سيمولاكرات الإنسان المحبوب أو المعشوق. إذا كان أفلاطون يؤمثل الحب/ الإيروس. وأرسطو يعمل على تجسيده من خلال تمظهرات الفيليا La philia. فإن لوكريس يفكك لغزه بالفصل بين الجنس والعاطفة : (هناك من جهة، اللذة الفيزيائية للجماع. وهي ليست بالمطلق ضرورية لكنها على الأقل طبيعية ومع أي كان. ثم من جهة ثانية، خطر العاطفة العمياء اتجاه شخص وحيد ليست طبيعية أو ضرورية! فينوس المتشردة، نعم فينوس العاطفية. لا ، بالنسبة ل لوكريس، وعلى النقيض من أفلاطون يوجد تناقض أساسي بين الحب والحكمة: يصير الحكيم بالحب تابعا للآخر، في حين أن الحكيم لا يجب عليه التعلق بأي أحد) ص50/51. لكن النقد الأكثر عنفا عند لوكريس يتجه إلى ماهية وجوهر الحب نفسه : (أي التبعية التي يتضمنها، والخضوع لقاعدة الآخر. لكن ما لم يظهر في نصه، ولم تتم مساءلته هو بالتأكيد الفكرة التي تتضمنها التبعية هنا : كون قاعدة الآخر بالنسبة لي، يمكنها أيضا أن تشكل قاعدة لهذا الآخر) ص 51. بوصولنا إلى القرن السابع عشر مع ديكارت عاشق ؟ نقف على سياق معرفي آخر، نكتشف معه بعض المعطيات الشخصية والحميمية من حياة أب الفلسفة الحديثة. أصدر ديكارت سنة 1644 عمله : Principes de la philosophie. وفي 1649 اشتغاله الفلسفي الآخر : le Traité des Passions. كان ديكارت آنذاك يبلغ من العمر 51 سنة، يعيش بمدينة إيغموند الهولندية. حيث سيتعرف على ملكة السويد كريستين عن طريق هيكتور بيير شانو سفير فرنسا في السويد، والصديق الحميم لديكارت مند 1944. عشقت كريستين الفلسفة، لذلك كانت لها حوارات مع شانو حول طبيعة العواطف والأهواء. لكنها فضلت أيضا معرفة تصور فيلسوف كبير كما هو الحال مع ديكارت بهذا الخصوص: (تتعلق المسألة، بأن نعرف جليا ماهية هذا الدافع السري الذي يحملنا إلى صداقة شخص دون آخر، حتى قبل الوقوف على مزيته) ص 56. بمعنى آخر ماهي الدواعي والدوافع التي يخترقنا على ضوئها الحب؟ أو لماذا نحب شخصا دون غيره؟ جزء من إشارات ديكارت كانت كالتالي :عاش الفيلسوف فعليا هذه التجربة، مؤكدا أنه حينما كان صغيرا عشق فتاة في سنه كانت شيئا ما حولاء. أمر، سيذكره دائما بهذا العشق الأول كلما شاهد شخصا بأعين لها مثل هذه الخاصية الفيزيائية. أما تنظيريا، فقد اشتغل على قضية الحب في مجموعة من رسائله، واحتلت موقعا مركزيا في كتابه : Le traité des passions. هناك سببان يدفعانك إلى حب شخص في مقابل بقية الناس: (1) واحد يعود إلى الفكر (2) والآخر يرتبط بالجسد تهيئه أجزاء من دماغنا يقوم مصدرها في موضوعات الحواس. أو هناك تميز بين الدوافع التي ترتبط بالروح من جهة والجسد من ناحية ثانية. لكنه يؤكد هنا بتوخيه دراسة العلل ذات الطبيعة الجسدية. يؤكد ديكارت على عفوية الإحساس الأول بالحب : (جذبتني فتاة صغيرة حولاء، ولا أعرف لماذا، هذا كل شيئ. ولأن الأمر، كذلك فإن التعلق كان مؤثرا) ص 58. شعور يخبو ويتلاشى حين تتم معرفة السبب. إلا أن هذا الحضور اللاواعي عند ديكارت، لا يشبه الحمولة النظرية التي أعطيت للاوعي الفرويدي: (دائما من خلال معنى أن شيئا ما يمكنه أو عليه، تبين ذاته بتحويله ذكريات مبهمة إلى أفكار واضحة متميزة من خلال تثبيتها في الفكر. ليس اللاوعي إذن شيئا آخر، غير كونه وعي بشكل مضمر. وإذا وجد في الواقع مؤقتا هذا اللا ـ مفسر، فإنه لا يظل مطلقا. مبررات اختيار هذا الشخص أو ذاك، تبدو بأنها غير قابلة للتفسير على الأقل لحظيا: لكنها قد تصبح عكس ذلك. طبعا، توجد عتامة بخصوص أسباب الحب عند الذي يعشق. لكن مع ديكارت فإن الفكر تعريفيا شفاف لذاته: لا توجد إذن تلك العتامة بين الفكر وذاته، لكن بين هذا الفكر ثم المركب جسد روح الذي يشكلني كإنسان)ص 58/59 فرقت النظرية الديكارتية أيضا بين الحب الذي يتميز ببعده الفكري والبرهاني المحض، عن النموذج الآخر الذي يتحدد بكونه نزوة أو حبا حسيا. تمايز الحب/ الذهني عن الحب / العاطفي ينسجم ويتوافق بلا شك مع ثنائية ديكارت الأساسية بخصوص الجسد والروح: (أكون في الحب الذهني شفافا لنفسي، الوعي بشعوري واضح على الوجه الأكمل. وفي الحب ـ الوجد، أبقى جزئيا معتما عن نفسي في نطاق كون بعض مشاعري تأخذ منبعها داخل الجسد ) ص61. إلا أنه بالرغم من كل التنظيرات الفلسفية، فإن الحب الأصيل والحقيقي الذي عرفه ديكارت في حياته، يظل عالقا بعشقه الأبوي لابنته فرانسين التي توفيت سنة 1640 .


* عن ملحق (فكر وإبداع) - الاتحاد الاشتراكي المغربية - 32 أبريل2007

Pierre sauvanet: les philosophes et l'amour, ellipses, 1998. (*)

ليست هناك تعليقات: