المشاركات الشائعة

الأحد، 19 ديسمبر 2010

13 قصيدة للشاعرة الاميركية مارلين هاكر
ترجمة أحمد أحمد

مارلين هاركر


سلوى للراشدين

أُسَلّمُ: الألفةُ تفرّخُ
الالتباسَ؛ التّماسك المغلف بالتّحفّظ أكثر نجاعةً.
قد تصبحُ عرضةً للفوضى؛ سيَلحق بي (وبها) الأذى.
في الاحتفاظِ بمسافةٍ ثمة أمانٌ وراحة بال، هو قولُ العاقلِ.

تحت السّترة الأكاديمية
المقلّمة، فوق كنـزة الصّوف المستَعمَلة،
رداءٌ قطنيّ وقميصٌ داخليّ،
تُرحِّبُ يدُك العارية بنهديّ العاريين.




أغنية[1] امرأة فنلنديّة
"أنت بالغة الحكمة،" قالتِ الرّنّةُ، " باستطاعتكِ أن تُقيِّدي
رياحَ الدّنيا إلى شاطئٍ أوحدَ."
هـ . س. أندرسون، من: "مليكة الثلج"


كان بوسعها أن أن تقيِّدَ رياحَ الدّنيا إلى شاطئٍ أوحدَ.
كان بوسعها أن تجدَ كلماتِ الدّنيا في ريحٍ تُنْشِدُ.
كان بوسعها أن تُقدِّمَ إرادةً سحريّةً ليدٍ مُرَقَّشَةٍ.
كان بوسعها أن تتسللَ لِتُدِيْرَ كلمةَ الإرادةِ في ذهنٍ مضطرب.

كان بوسعها أن ترودَ الغابات العذراء على متنِ غزالة.
كان بوسعها أن تسبرَ النَّبع بصولجانٍ من شجر الغبيراء.
كان بوسعها أن تلفَّ جروحَ الذئبِ برباطِ القماط.
كان بوسعها أن تُحيطَ كتاباً مُحرّماً بِقرْبَةٍ من حرير.

كان بوسعها أن تعيشَ حرباً عالميةً على أرضٍ مُجتاحة.
كان بوسعها أن تجرشَ الجذورَ الجافّةَ لتصنعَ منها نوعاً من خبز.
كان بوسعها أن أن تُقيْتَ مُعَبِّديّ الطرق على طعامٍ من ابتكارِها.
كان بوسعها أن أن تجدَ قطع الغيار ممَّا لا حياةَ فيه.

كان بوسعها أن أن تجدَ أطرافاً من حجرٍ في سِقْطِ الرمال.
كان بوسعها أن تتحمّلَ الحفرة يعتريها البردُ، برئةٍ تالفة.
كان بوسعها أن تناوِرَ بالتورياتِ البذيئةِ بالعاميّةِ التي اكتسبَتْها.
كان بوسعها أن تناغيَ اللقطاءَ بلغةِ أمهاتهم.

كان بوسعها أن تضفرَ شعرَ طفلٍ بمشطٍ من حسك الأسماك.
كان بوسعها أن ترعى اشتعال الجمرِ وسطَ الرّيحِ القُطبيّة.
كان بوسعها أن أن تُصلحَ مُحرّكاً بدبّوسِ خياطة.
كان بوسعها أن تُدفِئَ قدماً علاها السّوادُ لِرَجُلٍ يحتضر.

كان بوسعها أن ترتشفَ حساء الحصى من بئرٍ مُريبة.
كان بوسعها أن تتنفّسَ ريحَ الخراء الأخضر من خندق المراحيض.
كان بوسعها أن تشربَ حصّةَ ملكةٍ من نبيذٍ فاخر.
كان بوسعها أن تتأمّلَ في بضعةِ أشياء لن تُعلنَها.

كان بوسعها أن تتعلّمَ رموزَ الأناملِ التي يستخدمها الأبكمُ والأعمى.
كان بوسعها أن تصلَ إلى المفاتيح الحديديةِ للملكةِ المتجمّدة.
كان بوسعها أن تجولَ المُرْتَفَعَ برفقة صديقٍ سكرانْ.
كان بوسعها أن أن تقيِّدَ رياحَ الدّنيا إلى شاطئٍ أوحدَ.




أواخر آب / أغسطس

تتغيّر أحوالُ الطقسُ. يتدرّجُ المناخُ الجبلي
     المعتدل
إلى الخريفيّ.
ثمة صوتٌ كثيف في خشخشة أوراقِ شجرة التين
وتجولُ في بالي صورةُ المدن،
مع ذلك فإنّ الإثمارَ الثاني، المَبْيَضِيَّ[2]، الأرجواني، يتفتّقُ حتى ليبدو القرمزيّ
جاهزاً للقطف.
يسيّج العلّيقُ الدّورَ القرنفليّة التي ابتدأتْ أنساقُها من الطريق المعبّدة
مبرعماً بالتوت
لينضج أسودَ، حافلاً بالبذار، حلواً، لا يتجشم الفرنسيون التقاطه،
لكنني أقطفه أحياناً،
مصطحبةً كيساُ بلاستيكياً في جيبي الخلفيّ، في طريقي من السّوق.
رغبتي أقلُّ من ذي قبل بأن أتعرّى من قميصي صباحاً أثناء العمل على المصطبة.
شراشف السرير وسخة ومجعلكة، لكن لماذا يجب أن نعتلَ
إلى المصبغة المكْلفة
ما قد نحتاجه ليومين فقط؟ فكلّ أحاديثنا
تشي بالفراق.




Languedocienne[3]

هذا الصباح أقبلتِ الرّيحُ، تهزّ شجرةَ السّفرجل،
مُسبِّبَةً الفوضى في فناء الدجاج.

انخلع بابُ السّقيفة على وسعه، انصفقتْ ضلفاتُ النوافذ،
انزلقت الدفاتر والمظاريف عن طاولة مكتبي.

انحنى الحور الذي يفصل بين الدوالي هامساً
على الزيتون والخزامى، وهما مسحتان من صيف قائظ.

تُثيرُ الريحُ توقاً في رأسي. أصبو إلى
سطوح الماء، خفيفةً على أربع ضفافِ أنهرٍ مختلفة،

ثمة ارتعاشٌ فضيٌّ عند حافّة الضّفّة، شلال
يطلعُ مني حين أهبطُ فوقَك.

باكراً إلى محطة القطار؛ حافلة بطيئة تعودُ عبر بلداتٍ أغلقتْ مصاريعَها يوم الإثنين؛
الدرّاق تحت الحور، الرّيحُ في شجرة السفرجل.




من:
الحُبّ، الموت، وتقلّب الفصول




مقهى الهاربين I

ناديت سيارةَ أجرة خارج حانةٍ مُترفةٍ
عصيّة عن الوصف على شارع لِكزينغتون لكي
تمضي إلى مركز المدينة. عناقٌ؛ عناقٌ: هذه المرّة مسحتُ بشفتيَّ
سطحَ شفتيك، وثمة نار
تأججتْ أسفلي في شهرِ شباط هذا. آهٍ تباركَ وتَبَّ
ما تيقّظَ فيَّ إذ لم يُبْدِ ما يكفي من الرزانة.
لن أمضي إلى الفراش معك لأنني
أريدُ الأقصى. إن يكن فيما أريدُ انحرافاً،
فلتكن، كما ستخمّنين، انحرافاتٍ ستستهويني:
املأ الفجوة: مرةً؛ اثنتين؛ ثلاثاً؛ أربع...
فعَلْتُ، مضتْ سيارة الأجرة. بينما لم تأتِ حافلتي المتأخّرة،
وتَكَّتِ الرّغبةُ مثل بندولِ الإيقاع.
بالنسبة إليك، كان هناك مَن ينتظرك في البيت.
بالنسبة إليّ، كنتُ سأتجرّأ على المزيد لو كان هناك مَن ينتظرني.




مقهى الهاربين II

لمرة واحدة، بالكادِ انتبهتُ إلى ما أكلتُه
(سلمون وبروكولي ونبيذ سانت ڤيرا).
رفَّ مرفقي مثل حبّات فاصولياء تتقافز؛ انسربَ العرَقُ
داخلَ كُمَّيّ قميصي. هل يسعني أن أُركِّزَ انتباهي
على أيّ شيء إلا ساقيك مقابل ساقيّ
تحت الطّاولة؟ كان ذلك عسيراً،
لكنني اتخذتُ وضعيّةَ الرّاشدِ
وأنا أتطلّع إليك، وأبادلك قرع كأس النبيذ.
الآن إذ يريدُ كلانا أن يعرفَ ما نُريد،
الآن إذ يريدُ كلانا أن يعرف ما نعرفُ،
يبقى حريّاً بنا أن نعلمَ ما خطوتُنا التالية:
أن نكون يقظَين، نكون سخيَّين، نكون جريئَين،
نكون صادقّين، نكون سويّةً، ونتصرّف.
على الأقلّ لم أصب مرقةً بيضاء أسفلَ مقدمتي.




رُهاب الطيران

لن أهبطَ في اللظى ما لم يكن هبوطي
عليكِ. لن أهبطَ على أيّة حال،
إلا في ألسنة لهبكِ. سأقولُ، ابقي
معي الليلةَ. لن أقولَ لا. قد انتهيتُ
من النظر إليكِ عبر ثقب الباب وأنتِ تتخطّرين مثل Shane.
إذا أفقتُ ساعةَ الذئبِ، دَغْفَلاً[4]، وبي رغبة
بأن أمصَّ أصابعي التي لها مذاق فرْجِكِ،
وبنعومة أُخَلِّلُ العُرْفَ المتشابكَ
حولَ وجهكِ النّؤوم، وأَشُدُّكِ وأُداعبُكِ
وألعقُكِ متيقّظةً ما يكفي لأن
أُعِيْدَ الكرّةَ. غير أنّ ثمّةَ تحذيراً عن تغيُّرِ الرياح يكفي
لأنْ نقرِّرَ أفضل اتّجاهٍ نفترقُ
عندَه، في سيّارتيّ أجرة منتصفَ الليلِ، مع الدعابةِ المعهودة:
"ليلة سعيدة، يا ملاكي- اتّصلي بي لاحقاً في الصّباح."




Le Départ[5]

أودُّ أن أفيقَ وألقي بنفسي فوق باريس،
أتمشى من مارياس نحو مونبارناس
قبل العاشرة من صباح اليوم
الذي سأغادر فيه، تفيضُ العينان في الريح، مُربكةً
نفسي وأصحاب المتاجر بهذا الفيضِ
من الأحاسيس. سنرحلُ الليلةَ. غير أنني أتّجه الآن
نحو طاولةٍ ما (لا تزال إيڤا في السرير)
وأكشفُ عنواني الدائمَ،
الكرتون الذي يغلّف المكان الذي أعيش
فيه معكِ. أنامُ ملء جفوني. لا أحلمُ
بكِ، إلا أنني أستيقظ
وأنا إلى جوارك، أستحمُّ معكِ، أَنطلقُ، أنزلُ الأدراجَ
لكي أحظى بقهوتي الخالية من الكْريم (أما أنتِ فتشربين الشّاي)،
مبصرةً هذا الضوءَ الأشقرَ في شعركِ الصّباحيّ.




صباح السبت

نائمة وقد أخذ بك البراندي، يا حلوتي،
استطاعتْ يدي أن تجد طريقها إلى الموضعِ
الذي تعرفه الآنَ حقَّ المعرفة. رغمَ أنّ وجهكِ
قد استدار إلى الجهة الأخرى مني، نائمةً حتى الظهيرة،
تتقلبين لُصقي. بعد أن فرغْنا
من الكلام (من ثمّ البراندي) حتى الرابعة
فجراً، عزفتِ لي، في العتمة، ثلاث أغنياتٍ
حتى أخذتني إغفاءةٌ- مُنهَكَةً لم أصلِ الرّعشةَ
التي حاولتِ أن توصليني إليها. لذلك اقتعدتِّ الأرضَ
ومعك الغيتار، إلى جواري، تعزفين أغنية تروبادور،
وبعدها، عاريةً، أيقظتِني، شددتِني
لأهبطَ على فمِكِ، شددتِ الفمَ إليكِ واحتويتِني
في الفجرِ الرّماديّ، الذي في إشراقته كان اسمُكِ
مثل البراندي في فمي والرّعشةُ تأتيني ثم تأتيني.




Bloomingdale’s

"لو لم أكن أعملُ، لنمتُ إلى جواركِ
ساعةً أو ساعتين إضافيتين. ثم لَقُدْنا السيّارة
لبعضِ الوقتِ، خارج مانهاتن، باتّجاه
أحد متاجر بلومينغديل في وستشِستر.
ولو رأينا ما نرغبُ به، لكنّا اشتريناه!
جرّبنا مقاسَه، أولاً، في حجرة قياسٍ واحدة.
ولبذلتِ وسعَكِ لكي تحتفظي بهدوئكِ
حين جثوتُ وملأتُ أصابعي
بكِ، أطبقتُ فمي عليكِ، مستندة إلى الجدار.
شددتِ شعريَ َعَضَضْتِ على لسانك.
أمسكتُ مؤخّرتَك وبذلك لن تقعي.
ثمّ، سنذهب في نزهةٍ مطمئنة على امتداد
الممراتِ، تاركَتَين لأيدينا أن تجسَّ، كلما سنحتْ
الفرصة، ما وراء حمالة الثديين وما تحت السّراويل.




رياضُ الأكاديمية

مرّتِ السّاعةُ ببطء، وكانتْ حاجتي مُلحّة
للقهوة؛ ما حرّضَ سوءَ الطبعِ بي.
سألتُ طلبةَ كتابة الشّعرِ،
"أخبروني عن طبيعة الشعر الذي تقرأونه."
كان ثمّة لَوكٌ للشَّعرِ وعضٌّ للأظافر.
الثّلجُ تراكمَ حول الجامعة.
"أنا مقتنعٌ بأدب الخيال العلميّ."
"لا أقرأُ الكثير- القراءة تُضعِفُ تركيزي.
ولا أريدُ أن أسمحَ بمؤثّرٍ على أسلوبي."
"سجّلنا قصائد صوتية لصالح إذاعة الجامعة."
"حين أقومُ بالإلقاء، هل يجب أن أعتني بأسلوب الخطابة؟"
"هل صحيح أنه ليس ثمة شعراء
معاصرون ذوو شأنٍ يستخدمون القافية؟"
"هل تظنين أنها إضاعةٌ للوقت
أن أرسلَ قصائدي إلى Vanity Fair؟"
ما أعنيه- هل ثمة ما يربطهم بما أنا من أجله هناك؟




خاتـمُها

خاتمها حُفِظَ في خزانةٍ حديدية
إلى جانب أوراقِ المئة دولار والوصايا وصكوك المُلكية.
اعتدتِّ أن تخبّئي رسائلي جنباً إلى جنب مع شهادات
الأسهم، أن تفتحي قفل الحُجرة لتقرأي
أفكار الليلِ تلك التي في صندوق حديدي تحت المصرف
حيث ننـزلُ في هذه الظهيرة: لأجلِ قَرضٍ يسير
من مالٍ تعطينيه نقداً، الذي أشكرك
من أجله، لكن وأنا أرتجف. كبعضِ مزحةٍ، نوقّعُ
سند أمانةٍ على صفحة ورقة
مفردة: رائع أن أرى اسمك مكتوباً مع اسمي.
تطوينها، تحفظينها في مصنّف بلاستيكي،
ثم تنقّبين في التُّحَفِ لكي تجدي
وتريَني ما ورثتِ: خاتم أمِّكِ الألماسيّ البرجميّ،
كموشور عتيق في حشيّةٍ من الأطلس.
تستعرضينه. ألمحُ يدَك ترتعش.
تسألينني إن كنتُ أودُّ أن أجرّبَه على إصبعي
لكنني لن ألبسَ ذلك الألماس في يدي.
ذات يوم، أعطيتُكِ خاتماً. أعرتِني خاتماً.
ما استعرتُه ذلك اليوم قد رُدَّ إليكِ.








أيّام من سنة 1999

في إحدى ظهيرات شهر آب
المشرقة، في عودتي من حديقة ورودٍ
متوارية خلف شارع ڤيلاردوان،
فكّرتُ، طليقةً، مأخوذةً، فيما لو تسنّى لي أن أعيشَ وحيدةً
لكان باستطاعتي البقاء هنا
                  ثم أشحتُ الفكرةَ عنّي
بنفس الحدّةِ والاستهجان لفكرةِ " ثمة احتمالٌ
لمطرٍ قادم" لأنني أردتُّ فقط أن يكون لي الخيار،
وقد اخترتُ، أكثر من مجرَّد حصىً
وعرائش، أكثر من مجرّد بَرَكَةِ
رائحة الأرغفة الطّريّة التي تنبعثُ من المخبز،
بَرَكَة الوردة البيضاء التي تفتحتْ للتوّ،
أكثر من مجرّد الصفحة الخاوية لسماء بلا غيوم،
لكي أفيَ الخيارَ حقَّه، مُتَمَلِّيَةً فيه كلّ يوم
مع أن الفكرة تقلّصتْ إلى
فوحِ خبزٍ ساخن ودعابة أولادٍ
في عطلة من دونِ وظائف بيتية
خيارلم أتخذه قطّ قد اتُّخِذَ نيابةً عني
في ذهنٍ آخرَ، بلادٍ أخرى-
حسبتُ أنّ ثمةَ حقّاً لي فيها، ما أدركتُ
 أنه لم يحدث أبداً، كأنّ تلك الموجة الدافئة أتاحتْ لي الانجرافَ
دونما مرفأٍ في الأفق.
يغسلُ رذاذُ الربيع حديقة الورود المتوارية؛
خبزُ المساء ينتفخُ في الفرن:
كلمةُ ما بعد الظهيرةِ تُردِّدُ صدى "وحيدة"
كسماءٍ، يتيمة
في محنتها اليوميّة الكئيبةِ
تفشي أسئلةَ المطرِ المكرورة.



تعتبر مارلين هاكر Marilyn Hacker، واحدة من أهم الشعراء في أميركا اليوم. وقد حصلت على العديد من الجوائز الادبية. تقيم بين باريس ونيويورك، وهي في هيئة التحرير الاستشارية لمجلة بانيبال.


شاعر ومترجم سوري مقيم في أميركا

لاتغلقي شق الثمرة
دعيها تدمع على جذع لها
رفائيل ألبرتي
سلام صادق

ـــــــــــــــــــــ

جسدها منجم إيغالي
اردم فيه جنوح النزوة تلو النزوة
واطفيء في اقاصيه سعار الرغبة
احقنه بفضة اشتهائي
واعابثُ فيه هياجه اللعين
فأسلبه مجون لذائذه القصوى
وامنحه رعشات انكفائه ليحتدم
ومواهب شراسته لحظة الالتحام 0


جسدها مرعى شهواتي الوعرة
ابذره بسخاء اللوعة
وارشه بنثيث اشباقي
فأنضجه مبكرا بحمى لهيبي
ومن جداول فيضي
ارشقه بثمالة انساغي
فيطفق عشب هياجه زغبا أصفرَ
مشعشعاً كعيون الضواري
ومشتعلاً كمباغتات الومضة الاخيرة0


جسدها ارخبيلي الهائج
اخلع عنه حدوس العتمة
ووشاح الاسرار بكامله
والبسه دراري رعشاتي باطشة
وجحيمي النافث عرقا
حتى استغاثات خلاياه المذعورة
وهي تضج كغزلان نافرة
تفزعها جلبة انفاسي فتفرّ بعيدا
تلاحقها خيل ولوعي جافلة
فوق اديم يقطر لوعة نعناع
وتأوهات تتدوزن موسيقى مكبوتة
فتلين حوافر احصنتي
من نشوة فيض يغمرها ترفاً
وتنحدر بمهلٍ بمغارة نشوتها
ينسكب الوله الاعمى كصهيلٍ واهٍ
حين يجاوز وهج النصل شفاه الثمرة
فانزلق بعصير شموس ذائبةٍ
تمرغني بمرج الزغب اللامتناهي
في حديقة زعفران بكر
تظلل مكامن حذرٍ متأهب
فتلملم خدرها المدجج بالرهبة
وبكل بهارات الاعماق
ترشقني من ضفتيّ الادغال النابضة
المأخوذة بنكهة فيض ذهولي
فتشهق ساريتي في نهر يتلاطم
تنهره هاوية تتربص بزلاله
خلف شراع واهٍ يخادعني
لا تسبرهُ اجفاني نصف مغمضة
ولا تعبث بصفاء لزوجته
موجات الملح في ضراوة اندفاعي 0



تحتدم الشحنات اللاسعة
كحمى نهمة على الشفتين
تتكسر الرشفات المتسارعة
كانها على مخمل مدعوس
اشاغبها بالعض الهاديء
وبما يكفي لانسكاب رحيقها
فتمحضني رضاب الطاعة
نابضا بلا هوادة اللثم
كأنها تفتح شهيتي لغموض
انحدارٍ أعمق
وفيض من رغوة هذياني الواغر 0



اتوسل الحلمة نفورها
يخادعني ثعلب النهد الماكر
يحاصرني بطراوة المفترقات
ثم يسحبني لذروة الهجسِ
اباديء توتره بالملامسة
اعصرُ كرمته الملآنة خمرا
لمجد قباب تنتفض عاليا
وتطوّحني بسكر لعين
وبجذل ارتجاج نافر
فتعجن اصابعي عريكة التلال
التي تتصالب او تتقاطب
حتى حدود الانجذاب الممغنط
وفجأة تهمد الحمم الولهى ذائبة
ويستكين حارس الايوان المتعالي
على فوهة بركان كاد يقذفني
فانزلق برغوة فوران عجول
يدحرجني لاعماق النبع
المتواري في حشائشه الوحشية
وواديه المحصّن

1981
________
استيقظي ايتها المغلقة
رفائيل ألبرتي
سلام صادق


استيقظي، أيتها المغلقة
يا قبواً من مرجان
ها أنا قادم إلى أرضك الوعرة
عنيداً، أعمى، مطارداً
فانفتحي لندائي
لرغبتي نفسها التي تحلمين بها في مغارتك،
آه، من لدغات عرابيدك الحمر.


هل تسمعينني في العتمة؟
متعطشاً، عثت خرابا بـ تلالك
وهبطت إلى الوادي حيث بدأت
الطريق الأشد وعورة
فكله، رغم أنها شعيراتك، بدت كسلاء
جبال هناك محروثة بالأدغال.



أما زلت غافية؟
ألم تشعري بزهرتي، اللامعة، الخجول
و الجلد
المتسع، المتطاول يتعرى.
الإمام الحافظ
جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


لما تركت النيك حتى ضممتني
إليك إلى أن يلتقي النهد بالنهد

(منقول عن "نواضر الأيك في معرفة النيك، تأليف الإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفي سنة 911 هـ ، تحقيق و تعليق طلعت حسن عبد القوي، دار الكتاب العربي، دمشق، ص.ب. 34825 )

ودحرجتني حتى تهيج غليمتي
وتذهب عني وحشة البعد بالود
ولاعبتني حتى تراخت مفاصلي
بألطف ملعوب من الهزل والجد
كعضي وقرصي في رقيق خواصري
وقلبي وإقعادي سريعا على الفخذ
وفركي على فرشي وفرك أطارفي
وخلع ردائي واللباس مع العقد
وبطحي وفشخي وافتراشك فقحتي
وتعليق أردافي بقائم مُمْتَد
وتنظُر ما حازَ اللباسُ وما حَوَى
من الرَدفِ كالقطنِ الملَّففِ بالوردِ
وكالفهدِ غضبانٍ تدلت شفاهُهُ
مربرب منتوفٍ مسطح كالمهدِ
يَفيضُ على الكفين حين تضمهُ
وداخله نار تَضَرًّمُ بالوقدِ
على عمد الساقين حين علوتها
طري مَجَسٍّ ناعم الشحم كالزُّبدِ
يَعَضُّ إذا أولَجْتَهُ عَضَّ مُشْفِقٍ
ويمتصه في السَّلِّ كالطفل للنهدِ
فَجسَّ ومَلّس فوق قُبَّة سَطْحِهِ
وَطَقْطقْ على الأعكان والبطن والفخذِ
إذا قام كالمتراسِ والزندِ والعصا
وإنْ هدَّم الأركان خَرَّت من الهَدِّ
وتخنقه حتى تبين ضلوعه
وتخشى عليه الشقَّ والقدَّ بالقَدِّ
فـَنَقِّر شِفَارِ الكُسِّ بالرأس نقرةً
تيسر بالإيلاج والرهزِ من بعدِ
وتَفَرُجُ ما بين المشافِرِ فُرْجَةً
وَتَصْقِلها حَكًّا بمزور مُعْتَدِّ
وصَلْعتهُ أعْرُكها وَحَرِّك شفَاهَهُ
وأعتابه انْحَتها ولا تَخَشَّ من هَدِّ
وَمَكِّن بباب الُكسِّ كمرتَهُ وَقُم
فَأوْلِجُهُ إيلاجَ المُهَنَّد في الغمدِ
وأطبِقْهُ لي شيئًا فشيئًا يَسُرُّني
وفي صَدرِهِ سَكِّنْهُ أبلُغْ به قَصْدِي
ومِنْ بَعْدِ ذا زَحْزَحْ وَحَرِّك متابعًا
وأَكْثِر منْ الرَّهْزِ الموافِقِ للجَبْد
وطَرِّق طَرْطقْه وأَذل ودُكَّهُ
وقل شق قح على الشفر بالجدِّ
وفَشِّخْهُ وانْحَتُهُ ولَطِّم جِداره
وبالنحرِ فالحَقْ ثم فادلُك على الجلد


---------------

من كتاب
"نواضر الأيك في معرفة النيك"
الإنسان صديق و محب الحكمة
أو في «الهومو فيلو صوفوص»
إدريس كثير


«إن الذي بلغ تحرر العقل، ولو بقدر معين، لن يشعر على الأرض بشيء آخر سوى كونه مسافرا».
نيتشه


المسافر الذي يلم بهذا العنوان أو المفهوم المركب من ثلاث دلالات تداولية كبرى ينهل من اللغتين الإغريقية واللاتينية. "فهومو" تشير إلى الإنسان، و"فيليا" إلى الحب أو الصداقة، و"صوفوص" إلى الحكمة والذائقة... وهي الدلالات التي يمكن ترجمتها إلى اللغة العربية بالإنسان صديق أو محب للحكمة.
لم يكن للحكي والطرائف ولا حتى الشعر أن يستشكل موضوعة الحب والجنس والمتع، فلقد حافظ الحكي على سماته: لغة مشوقة، تلخيص، وتكثيف للموضوع ثم بعد ذلك تفصيل الحديث فيه، بالحرص على مصدر الخبر، والعمل على الإثارة رغم المبالغة التي قد تفسد حقيقة الحكي بل متعته، حيث لا تهم حقيقة الحدث بقدر ما يهم سرده وحكيه. يمكن أن نتلمس النموذج في «أبواب النيك» ص 607/611 لنعمة الله الموسوي وفي كتاب التيفاشي برمته حيث يبدأ كل باب من أبوابه الإثني عشر، بتحديد الموضوع وتفصيله ثم ينتقل إلى النوادر والأخبار، ثم الاشعار فيجمع بذلك بين العلم والمعرفة والطرافة والمدح، أما الشعر فهو حديث آخر.
مثل هذه الأير/وتيكا وهذه الهوموفيليا من حيث المفهوم والمصطلح لا تنحصر في البعد الجنساني بل تتعداه إلى مستويات جنيالويجية إنسانية وأنطولوجية فلسفية عامة...
بحيث يبدو أن الهومو/فيلو/صوفوص" لدى نيتشه، مرتبط بإنسانيته فهو "إنسان مفرط في إنسانيته1 "يحطم الأصنام المختلفة التي لا تعير اهتماما للإنسان. يتكون هذا الكتاب من تسعة فصول، الأول يتحدث عن الإنسان كغاية ومبادئ، والثاني يركز على أخلاقه وسلوكاته والثالث يربط الإنسان بالدين، والرابع بالفن والكتابة، والخامس يموضع الإنسان homo في الحضارة، والسادس في المجتمع، السابع يتعلق بالمرأة والطفل، والثامن بالدولة والإنسان، والتاسع بالإنسان وحيدا أمام نفسه1.
هذه التاسوعات تعلي من شأن الإنسان، وتضعه ضمن إنسانية العقول الحرة" حكماء النفس وأطباء الحضارة، الملتزمين الصمت، لأن في بعض الحالات، التزام الصمت هو الذي يجعل منهم فلاسفة. لكن الفلاسفة قد أخطأوا حين انطلقوا من الإنسان الحالي وكأنه حقيقة خالدة والحال أن الإنسان ليس سوى شهادة حول إنسان فترة محددة، فهم لا يريدون أن يفهموا بأن الإنسان (Homo) هو نتيجة صيرورة... وما يلزمنا بهذا الصدد، من الآن فصاعدا، هي الفلسفة التاريخية وبمعيتها التواضع (ص18 نفسه).
أما العقول المستعبدة فتتحكم فيها العادة «والاعتياد على مبادئ فكرية مجردة من الحجج هو بالضبط ما نسميه الإيمان" (ص: 29، نفسه)، فحين يتصرف المرء تحت تأثير بواعث قليلة، لكنها لا تتغير أبدا، فإن فعاله تكتسب منها طاقة كبيرة، وإذا رافقت هذه الفعال مبادئ العقول المستبعدة فإنها تحظى بالقبول وبشكل عرضي تولد لدى من قام بها إحساسا براحة الضمير"(ص 130 نفسه). يتحكم فيها التقليد، بحيث لا تحتاج إلى حجج تبرر بها أفعالها، وتعتبر بالتالي العقول الحرة دائما ضعيفة، لأن لديها الكثير من البواعث ومن وجهات نظر التي سيرتها مترددة وغير متمرسة. "فكيف يولد العقل القوي؟ المسألة في حالة منفردة، هي مسألة إبراز العبقرية: (ص: 131) والعبقرية لا تبرز إلا في الحالات الإستثنائية كمحاولة الفرار من السجن ببرودة الدم والصبر الفائقين أو المكابدة في العثور على منبسط للسير وسط غابة كثيفة... هكذا تولد العبقرية! ويولد الفكر الحر "لاضطرام شديد للغاية في الإحساس" (ص132) ذلك الإحساس الذي يفوق كل الأحاسيس. لكن من يقدر على ذلك؟ وحده الشاعر بكل تأكيد. والشعراء يعرفون دوما كيف يواسون أنفسهم"(37).
الهومو إذن عند نيتشه هو ذاك الذي يتأمل نفسه: فيلو صوفوص. والتأمل الإنساني، المفرط في الإنسانية أو كما يقول المصطلح التقني: "الملاحظة النفسية" هي إحدى الوسائل التي تمكننا من تخفيف عبء الحياة. وأن ممارسة هذا الفن يجعلنا حاضري البديهة في بعض الحالات الحرجة ويسلينا وسط محيط مضجر..." (ص 39) لذا أصبحت الملاحظة النفسية ضرورية فهي منطلق ذلك "العلم الذي يتحرى أصل وتاريخ الأحاسيس الأخلاقية"، (جينالوجيا الأخلاق).
لمعرفة الإنسان لابد من أنثربولوجيا أخلاقية، يكون من مهامها، طرح المشاكل الاجتماعية المعقدة وحلها (ص 41) ،لم تكن الفلسفة القديمة في نظر نيتشه على علم تام بهذه المشاكل لذات انطلقت من تأويل خاطئ لها واعتمدت عليه كقاعدة لإرساء أخلاق خاطئة: "ألا يمكن قلب القيم والخير ألا يكون هو الشر؟ والإله مجرد ابتكار، مجرد خدعة شيطان؟ ألا يحتمل أن يكون كل شيء خطأ؟ وإن كان قد تم تضليلنا، ألا نكون نحن كذلك مضللين؟ ألسنا مرغمين على أن نكون كذلك (ص12).
إن مركز كتاب "إنسان مفرط في إنسانيته" من منظور تيمتنا، يوجد في الشذرات 259 و 260 وخاصة 261 (ص ص 144/148)، ليصف نيتشه في الشذرة الأولى، حضارة اليونان بالحضارة الرجولية (Homo )، ويقلل من شأن العلاقات بالنساء ليعلي شأن العلاقات الإيروسية بين الرجال والمراهقين، "كل ما كان هناك من مثالية القوة في الطبع الإغريقي تم نقله إلى هذه العلاقات، وقد كان ما حظي به شباب القرنين السادس والخامس من العناية والحنان والاحترام المطلق من طرف أفاضلهم شيئا لا نظير له، مصداقا لحكمة هولدرين الرائعة: "حين يحب المرء فإنه يعطي أفضل ما لديه" (ص 144).
العلاقة بالنساء كانت تنبني على التناسل والشهوة، في حين أن العلاقة الأخرى كانت ثقافية وكان فيها حب حقيقي. أضف إلى ذلك أن النساء كن مقصيات من الألعاب والعروض والغذاء الروحي الوحيد المتبقي لهن هو العبادات الدينية: أنتيجون، إلكترا.. وهي أدوار كان الإغريق يسمحون بها في الفن لا في الحياة. لذا لا نطيق الحزن في الحياة ولكن نسمح به في الفن (المأساة).
يبدو أن هذه الهوموفيليا هي التي شجعت النساء على إنجاب أجساد جميلة وقوية تستمر من خلالها رجولة الحضارة الإغريقية، «إن عبقرية اليونان كانت دائما تجد في الأمهات الإغريقيات طريق الطبيعة (ص 145).
هل هذه الهوموفيليا أو الحضارة الرجولية هي السبب في طغيان العقل لدى الإغريق؟ طغاة العقل هؤلاء تنكروا للأسطورة ولشعاعها؟ وكأنهم استبدلوا الشمس بالعتمة، إلا أن الأسطورة في نظرهم لم تكن ساطعة بما فيه الكفاية، كان الصفاء عندهم جهة العقل والمعرفة والحقيقية التي تنبث دفعة واحدة بقفزة واحدة وتبلغ عمق الكينونة. لذا "كان لهؤلاء الفلاسفة إيمان راسخ بأنفسهم كما بحقيقتهم وكانوا يهزمون به جيرانهم والسابقين عليهم، كان كل واحد منهم محاربا وعنيفا. كان طاغية" (ص145)، محفز هذا الطغيان في نظر نيتشه هو وضع النواميس. لقد كان صولون طاغية رغم احتقاره للطغيان الشخصي لأن حبه لوضع التشريعات كان عارما، وكان بارمنيدس كذلك وفيتاغورس وإنبادوقليس وأناكسيماندر، أما أفلاطون فكان هو المشرع الأكبر ومؤسس الدولة الفلسفية. لكن فشله في تحقيق مشروعه جعل روحه في آخر حياته تمتلئ بالحقد الأشد سوادا. في ليلة واحدة دمر سقراط تطور العلوم الفلسفية المنتظم بشكل رائع، حتى ذلك الوقت في لحظة بات أفلاطون طاغية ولم يدرك عمق الما قبل السقراطيين ولا حتى أرسطو أدرك ذلك، و "كأنه لا يملك عيونا يرى بها حين يجد نفسه أمام هذه الشخصيات" (ص 147)، هكذا فكل مفكر عظيم تحول إلى طاغية بفعل اعتقاده أنه قد ملك الحقيقة المطلقة.
فهل الهومو صوفوص هو من نخبة أهل العقل أو ما اصطلح عليه نيتشه بأوليغارشيا العقل؟ النموذج الأقرب لهذه النخبة هو هومي/روس". كان أهم حدث في ثقافة العالم الهليني. كل الحرية الفكرية والإنسانية التي بلغها الإغريق ترجع إلى هذا الحدث. لكنه كان في الوقت نفسه نكبة الثقافة الإغريقية ،لأنه ونظرا لاستئثاره بكل شيء، قد نزع عنها عمقها وقضى على الجدية الكبيرة للغرائز الميالة نحو الاستقلال. كانت أعماق الروح الهيلنية من حين لآخر تجهر باحتجاجها ضد هوميروس، لكنه كان دائما ينتصر، وكل القوى الروحية الكبيرة تمارس إلى جانب تأثيرها التحريري، تأثيرا آخر، تأثيرا مضطهدا، لكن هناك فرق، بكل تأكيد، بحسب الذي يضطهد الناس، هوميروس أو الإنجيل، أو العلم" (ص 148 الترجمة)، ألم يكن هوميروس طاغ من الطغاة؟
ربما كان عبقريا؟ العبقرية لا تخلو من جنون. قال أفلاطون: "لقد جلب الجنون أكبر النعم للناس" لدى فإن الطبقات المثقفة في البلدان الأوروبية كلها عصابية، ومرد ذلك في نظر نيتشه هو طغيان العواطف والإحساسات وفيضها، وعدم التشبث بروح العلم التي تجعلنا إجمالا باردين شيئا ما. العبقرية تقدير مبالغ للذات، فهي ليست صدفة ولا نعمة، وإنما هي "حدس" بمعنى منظار صغير يسمح بالرؤية المباشرة "داخل الكينونة" مما يجعل العباقرة في صورة إنسان "سماوي" أو علنسان يتوفر على ملكات خارقة (Homo génie) شفافة هشيشة تكشف عن غضبه الجنوني حين ينتقد أو يقارن بالآخرين، وعن سخطه حين تكشف مواضع فشله... لنتذكر نابليون مثلا. (ص 104) إن مفارقة العبقرية لا تجد تأويلاتها إلا فيما يوحي به التاريخ من خلال صمته، فهو فيما يبدو يؤكد على سوء المعاملة للناس وعلى تعذيبهم ودفعهم إلى أقصى الإهانات (يصرخ التاريخ دائما في صمته بالأهواء والغيرة والحقد والحسد)، آنذاك تنبثق روح العبقرية فجأة. العبقري شرير وقاسي مثل الطبيعة «لكن ربما لا نكون قد سمعنا صوت التاريخ جيدا» (ص132).
يفيدنا نيتشه نفسه في "إكسي هومو" أن كتابه "إنسان مفرط في إنسانيته" هو شهادة على "أزمة"، أزمة "العقول الحرة" حين تريد أن تتخلص من "المثالية" لكي لا ترى إلا الإنسان المفرط في إنسانيته. شكل فولتير نموذجا صارخا في هذا الصدد بذكائه وإنسانيته، بمثل هذا الذكاء سيقطع نيتشه مع عروض بيروت ومع فاغنر وأمثلته، وسيستفيق من غفوته حاملا احتقاره وميناخولياه لكل ما هو ألماني كمرض، إلى أمكنه قصية لكتابة بل لإملاء كتاب "إنسان مفرط في إنسانيته" على بتيرغاصت Peter Gast. هذه القطيعة هي الواقع قطيعة مع فساد الغرائز والعودة إلى الذات، ساهم فيها المرض والألم بقدر كبير في الإيحاء والعزم، ويكفي يقول نيتشه، أن نعود إلى "الفجر"، أو إلى "المسافر وظله"، لندرك معنى هذه "العودة إلى الذات" (ص96)، إنها شهادة على الوعورة التي أدب بها نيتشه شخصيته، وحد بها نهائيا "كل الاستيهامات المقدسة" وكل "المثاليات" و"المشاعر الطيبة"، وكل الميولات الأنثوية، والهوموفيليا الأخرى.
في حديثه عن المواهب الدرامية الجرمانية، عن كوطزبي Kotzebue وعن شيلر schiller وعن غوته، يشير نيتشه إلى صوفيا باعتبارها "الذوق" (Le goût) رابطا بين الحكمة وبين الذوق حتى ولو كان هذا الأخير رديئا، معتبرا أن أصحاب الذوق سعداء وهم في نفس الوقت حكماء، لذا جمع اليونان في صوفيا بين الحكمة والذوق. فالفيلسوف أي الهومو صوفوص هو رجل الذوق، (ص 438 آراء وحكم مختلطة)، وهذا المعنى هو نفسه الذي قصده أرسطو في كتاب نيكوماخوس وحتى لا يبدو هذا الرجل باردا حذرا قلقا كما هو في طبيعته، يدفعه حبه للإنسان Philanthropie إلى أن يبدو... متأثرا قابلا للانفعال إن لم نقل مجنونا (ص 476)، وهذا هو الاستثناء الإغريقي، الذي نعثر عليه لدى العقول العميقة والجادة، تلك العقول التي تستعير الأشكال من الأجانب لا لتقليدها إنما لتحولها وتكسيها بمظاهر جديدة.
لقد أشارت أنجيل كرامر مرايتي في تقديمها لكتاب "إنسان مفرط في إنسانيته"، إلى أن هذا الكتاب يعد جنيالوجيا للعقل الحداثي، ربط فيها نيتشه بين الماضي المتوحش لإنسانيته بالمستقبل الما بعد حداثي لأوروبا (ص6) (وهو نفس الموقف الذي بدأنا به هذه الدراسة مع الأنتربولوجي إدغار موران. حداثة "ترنسندنثاليه" تريد القطع مع الميتافيزيقا الما بعد سقراطية، فهي لا تروم تجاوز الدوكسا Doxa "إنما نريد تجاوز ضرب من التفلسف لا يبتعد كثيرا عن الدوكسي Doxie، فداخل الفلسفة المثالية مثلا وهي «فلسفة عقلانية" تختفي الدوكسا، دوكسا الانحطاط التي أفسدت غرائز الإنسان ولوثت العقول الحرة، تلك العقول التي تعتمد على منهجية حددتها ماريتي في أربع خطوات:
1- الانطباع أو الحدس (Impression)
2- الضرورة،
3- الاستعياب، Assimilation
و 4- الخيال fiction (ص 7)، منهجية ما بعد حداثية لأنها تركز أيما تركيز على الوظيفة الرمزية"، الوظيفة الأساس في ميدان الإبداع والإبداع الفلسفي أساسا، لكن هل الهومو فيلو صوفوص عند نيتشه إنسان عدمي؟ أجل إنه كذلك إلا أنه ليس بالمعنى الحداثي الذي تدفعنا إليه التقانة والعقلانية، إنما بالمعنى المابعد حداثي الذي يشك في العقل "ويحلق عاليا فوق القمم"، ويعتبر الحقيقة امتدادا لحقائق أخرى أولية قد تكون اللاحقيقية... في شكل متاهة لا تنتهي من التأويلات...
ترى ما هي صورة الهوموفيلو صوفوص لدى اليونان، وبالضبط لدى أفلاطون وأرسطو؟ يبدو أن أفلاطون قد قارب مفهوم «الحب» في محاورة المأدبة وقارب مفهوم "الجمال" في محاورة فيدر وكذلك في محاورة تيتياطوس وإن كان الموضوع الرئيس في هذه الأخيرة هو "العلم". أما أرسطو فنعثر في كتابه "الإتيقا إلى نيكوماخوس" على فصلين حول «نظرية الصداقة" في الفصل الثامن والفصل التاسع.


هوامش

يقول نيتشه:qu’est ce que le génie? Vouloir un but élève et les moyens pour y parven
2- يمكن مراجعة الصفحات 144-145-146-147 من فيدر للتوسع في هذه الافكار، انظر قائمة المراجع



العلم الثقافي
7/10/2010