الحبّ في التراث العربي الإسلامي
د. عبد الكريم اليافي


تـــــــابع...

مجنون ليلى رمز العشاق:

إن كل عاشق قد أصابه طرف من اللمم أو مسٌّ من الجنون. ولكن قيس بن الملوح هو الذي عرف بالمجنون وهو رمز الحب المفرط في تاريخ الحب. ولسنا نريد الآن أن نشك ولا أن نثبت ولا أن ندعي العلم الواسع والنهج العلمي كما فعل طه حسين في حديث الأربعاء فإن كل ما صنع هذا الأديب الناقد واضح بيِّن بين أخبار المجنون في كتاب الأغاني، وإنما نتخذ قيساً هذا الذي لا نشك في أنه يمثل طائفة العشاق. فهنالك ألوف العشاق المجانين من أشهرهم قيس بن الملوح وقيس بن ذريح وعروة بن حزام وغيرهم وغيرهُم. ونظن أن الذين لم تسجل أسماءهم كتب الأدب أكثر من هؤلاء العشّاق.

ذكر الأصمعي(11) أنه سأل أعرابياً من بني عامر عن المجنون العامري فقال: عن أيهم تسأل فقد كان فينا جماعة رموا بالجنون فعن أيهم تسأل فقلت عن الذي كان يشبب بليلى فقال كلهم كان يشبب بليلى. ثم يستنشد الأصمعي الأعرابي شعراً لبعضهم فينشده بعض القطع الشعرية الجميلة ثم يختم إنشاده فيخاطب الأصمعي قائلاً حسبك فو الله إن في واحد من هؤلاء لمن يوزن بعقلائكم اليوم.

هذا معناه أن العقل في الحب هو الجنون نفسه.

قال الجاحظ: ما ترك الناس شعراً مجهول القائل قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون ولا شعراً هذه سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح.

نحن يهمنا إذن هذا الرمز الأدبي العاطفي في قيس بن الملوح. لقد نشأ مع ليلى وهي صغيرة ذات ذؤابة يرعيان الماشية ويعلبان:

تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا
إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم

العمل الفني سواء أكان شعراً أم رسماً أو موسيقى إذا أنجز خرج عن سيطرة الزمان ولكن الإنسان قد يشعر إبانه بلحظة عميقة ينفذ فيها إلى أعماق الوجود وما فيه من ألفة ومحبة كما شعر ذلك الراعي الصغير إذ بقيت تلك الذكرى ماثلة في نفسه أو ينفذ إلى أعماق الوجود وما فيه من قرف وتقزز ونفور كما شعر فيلسوف الوجودية سارتر. ولكن الإنسان كان من كان لا يلبث أن يرتد إلى حياته العادية التي هو مضطر أن يلبي حاجاتها وهو مالك لإرادته ووعيه.

قد يقع بين الأحياء والقبائل والأسر نزاع أو عداء كما وقع بين أهل روميو وجولييت على رأي شكسبير وكما وقع بين شيمين ورودريك على رأي كورني وكما جاء التلميح إلى ذلك في شعر المجنون ولكن الحب يزدري ذلك كله ويترفع عنه يقول المجنون:

وقد لامني في حب ليلى أقاربي
أخي وابن عمي وابن خالي وخاليا
يقولون ليلى أهل بيت عداوة
بنفسي ليلى من عدو ومالياً

فهو يفدي ليلى بماله ونفسه. ذلك أن الحب يقوي الحب ويدعمه. ولو شعر قيس بأدنى عزوف من ليلى عنه لانصرف عنها على الرغم من الحب الجارف. إنه مطمئن إلى حبها له:

ولو كان في ليلى شداً من خصومة
للويت أعناق المطي الملاويا

أراد قيس ذات يوم أن يزور ليلى فركب ناقته وسار بها وهو مشغول البال. ولكن الناقة كان لها فصيل تحبه وتحن إليه فما أن شعرت بضعف القيادة حتى ثنت عنانها آيبة إلى رضيعها، ثم أدرك قيس أنها راجعة فردها إلى مقصده ولكن قيساً استغرق في تفكيره فرجعت الناقة إلى طريق عطنها مرة ثانية فردها أيضاً إلى غايته وهكذا فعل قيس وفعلت الناقة أربع مرات. وعندئذٍ نزل عنها وخلاها ترجع إلى فصيلها وسلك هو وحده الطريق إلى ديار الحبيب وغنى ذلك في شعره:

هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى
وإني وإياها لمختلفان
هواي أمامي ليس خلفي معرَّج
وشوق قلوصي في الغدو يماني
هواي عراقي وتثني زمامها
لبرق إذا لاح النجوم يماني
متى تجمعي شوقي وشوقك تظلعي
ومالك بالعبء الثقيل يدان

هذا الشعر لعروة بن حزام من قصيدة طويلة له ولكن الشاعر الفارسي عبد الرحمن جامي في كتابه ليلى والمجنون ينسب القصة إلى المجنون.

ليلى الأنثى تلعب بالنار. فقد زارها قيس فأكرمت زيارته وحادثته ولكنها أرادت أن تعلم هل لها عنده مثل ما له عندها فجعلت تعرض عن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وامتقع وشق عليه ما فعلت فأنشأت تقول:

كلانا مظهر للناس بغضاً
وكل عند صاحبه مكين
تبلغنا العيون مقالتينا
وفي القلبين ثم هوى دفين

فلما سمع هذين البيتين شهق شهقة عظيمة وأغمي عليه فمكث كذلك ساعة ونضحوا الماء على وجهه حتى آفاق وتمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه وبلغ منه كل مبلغ ثم انصرفت عنه وهو من أشد الناس سروراً وأقرهم عيناً.

جاء قيس منزل ليلى يطلب قبساً من نار وهو متلفع ببرد له من البرد فأخرجت ليلى له ناراً في عطبة فأعطته إيَّاها ووقفاً يتحدثان فلما احترقت العطبة أخذ خرقة من برده وجعل النار فيها فكلما احترقت خرق أخرى وأذكى بها النار ثم انسابت النار إلى راحتيه دون أن يشعر. وقد لخص شوقي ذلك الحديث:

رب فجر سألته
هل تنفست في السحر
ورياح حسبتها
جررت ذيلك العطر

ولكن ليلى تخشى عليه خطر النار فتقاطعه:

ويح قيس تحرَّقت
راحتاه وما شعر

هذا الحب يصاب بلعنة وأي لعنة. فقد لغا الناس في حبهما وأرجفوا الأراجيف وذكروا لقاءهما ليلة الغيل إذ يقول قيس:

أبت ليلة بالغيل يا أم مالك
لكم غير حب صادق ليس يكذب

وقد كرهت ليلى هذا البيت خشية الأقاويل.

ولما أتى قيس بن ذريح ليلى شفيعاً لسميِّه ابن الملوح ومثيله في جنون العشق قال لها:

إن الناس تأولوا كلامه على غير ما أراد فلا تكوني مثلهم. إنما أخبر أنه رآك ليلة الغيل فذهبت بقلبه لا إنه عناك بسوء فأطرقت طويلاً ودموعها تجري وهي تكفكفها ثم انتحبت وقالت لابن ذريح: قل له بنفسي أنت والله أن وجدي بك لفوق ما تجد ولكن لا حيلة لي فيك.

ومع ذلك فقد حجبت ليلى وأهدر الوالي دم قيس إن تعرض لها ثم أكرهت على الزواج من غيره. ولما أراد زوج ليلى الرحيل بها إلى بلده بلغ المجنون أنه غاد بها فقال يخاطب نفسه:

أمزمعة للبين ليلى ولم تمت
كأنك عما قد أظلك غافل
ستعلم إن شطت بهم غربة النوى
وزالوا بليلى أن لبك زائل

قيل إن قيساً سقم سقماً شديداً قبل اختلاطه حتى أشفي على الهلاك. فدخل إليه أبوه يعلله فوجده ينشد هذه الأبيات ويبكي أحرَّ بكاء وينشج أمرَّ نشيج:

ألا أيُّها القلب الذي لج هائماً
بليلى وليداً لم تقطع تمائمه
أفق قد آفاق العاشقون وقد أنى
لحالك أن تلقى طبيباً تلائمه
فما لك مسلوب العزاء كأنما
ترى ناي ليلى مغرماً أنت غارمه
أجدك لا تنسيك ليلى ملمة
تلم ولا ينسيك عهداً تقادمه

قيل: ووقف مستتراً ينظر إلى أظعان ليلى وقد رحل بها زوجها وقومها. فلما رآهم يرتحلون بكى وجزع فقال له أبوه: ويحك إنما جئنا بك متخفياً ليتروح بعض ما بك بالنظر إليهم فإذا فعلت ما أرى عُرفت وقد أهدر السلطان دمك إن مررت بهم فأمسك أو انصرف. فقال ما لي سبيل إلى النظر إليهم يرتحلون وأنا ساكن غير جازع ولا باك فانصرف بنا. فانصرف وهو يقول:

ذُدِ الدمع حتى يظعن الحي إنما
دموعك إن فاضت عليك دليل
كأنَ دموع العين يوم تحملوا
جمان على جيب القميص يسيل

وتصبح الدنيا كلها ضيقة عليه كأنها حلقة خاتم ويشعر بفؤاده تتخطفه مخالب الطير:

كأن فؤادي في مخالب طائر
إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم
علي فما تزداد طولاً ولا عرضا

وهو يتحرق بنار الفراق بعد أنس القرب:

وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني
بقول يُحلُّ العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حيلة
وخلفت ما خلفت بين الجوانح

ومع ذلك فلتفعل ليلى ما بدا لها ما أكرهت عليه فليس بمتغير لها ولا تائب عن حبها ولو نصحه الناصحون:

عفا الله عن ليلى وإن سفكت دمي
فإني وإن لم تجزني غير عاتب(12)
عليها ولا مبد لليلى شكاية
وقد يشتكي المشكى إلى كل صاحب
يقولون تب عن حب ليلى وذكرها
وما خلتني عن حب ليلى بتائب

قيل مرَّ المجنون بزوج ليلى وهو جالس يصطلي في يوم شات وقد أتى ابن عم له في حي المجنون لحاجة فوقف عليه ثم أنشأ يقول:

بربك هل ضممت إليك ليلى
قبيل الصبح أو قبلت فاها
وهل رفت عليك قرون ليلى
رفيف الأقحوانة في نداها

فقال اللهم إذ حلَّفتني فنَعمْ. قيل: فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر فما فارقهما حتى سقط مغشياً عليه وسقط الجمر مع لحم راحتيه، وعض على شفته فقطعها. فقام زوج ليلى مغموماً بفعله متعجباً منه فمضى.

إن الجنون وقطع الشفة ليس مقصوراً على قيس بن الملوح ولا على الشعراء. وينبغي ألا نستغرب ذلك. فمن المعلوم أن الرسام الهولندي الشهير فان خوخ قطع أذنه وقدمها إلى صديقته ثم رسم نفسه مضمد الوجه والأذن. والجنون فنون.

يذكر رواة الأدب أحوال المجنون وهيامه في البراري ولكنهم يغفلون نفسية ليلى التي بقيت تحب قيساً بعد زواجها. كيف كانت حياتها مع زوجها وهل كانت عند الوصال تفكر في هذا الزوج أو تغمض عينيها لتفكر في ابن عمها. كل ما نقرؤه أنها كانت دائمة الذكر له على الرغم من غناها. ذكروا أن رجلاً خرج إلى ناحية الشام وما يلي تيماء والسراة وأرض نجد في طلب بغية له فإذا هو بخيمة قد رفعت له وقد أصابه المطر فعدل إليها وتنحنح فإذا امرأة قد كلمته فقالت: انزل. فنزل. ويحدثنا الرجل فيقول: وراحت إبلهم وغنمهم فإذا أمر عظيم فقالت: سلوا الرجل من أين أقبل؟ قلت من ناحية تهامة ونجد. فقالت: ادخل أيُّها الرجل. فدخلت إلى ناحية من الخيمة. فأرخت بيني وبينها ستراً ثم قالت: يا عبد الله أي بلاد نجد وطئت؟ فقلت: كلها. قالت: فيمن نزلت هناك؟ قلت: ببني عامر. فتنفست الصعداء ثم قالت: فبأي بني عامر نزلت؟ فقلت: ببني الحريش. فاستعبرت ثم قالت: فهل سمعت بذكر فتى منهم يقال له قيس بن الملوّح ويلقب بالمجنون؟ قلت: بلى والله، وعلى أبيه نزلت وأتيته فنظرت إليه يهيم في تلك الفيافي ويكون مع الوحش لا يعقل ولا يفهم إلا أن تذكر له امرأة يقال لها: ليلى فيبكي وينشد أشعاراً قالها فيها. قال:

فرفعت الستر بيني وبينها فإذا فلقة قمر لم تر عيني مثلها. فبكت حتى ظننت والله أن قلبها قد انصدع فقلت: أيتها المرأة اتقي الله فما قلت بأساً. فمكثت طويلاً على تلك الحال من البكاء والنحيب ثم قالت:

ألا ليت شعري والخطوب كثيرة
متى رحل قيس مستقل فراجع
بنفسي من لا يستقل برحله
ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع

ثم بكت حتى سقطت مغشياً عليها فقلت: من أنت يا أمة الله وما قصتك قالت: أنا ليلى صاحبته المشؤومة والله عليه غير المؤنسة له، فما رأيت مثل حزنها ووجدها عليه قط.

لقد ملك زوج ليلى جسمها ولكنه لم يملك روحها.

أما قيس فما زال يتخبط في الفيافي والأودية والنجود إذا رأى ظبية مصيدة فداها بغنمة أو قلوص لشبهها بليلى

إنه يعرف قيمة السياحة وقيمة الشعر في تخفيف تباريح وجده قبل أن ينوه بوظيفة الفن فلاسفة الفن

فما أشرف الإيقاع إلا صبابة
ولا أنشد الأشعار إلا تداويا

ومع ذلك فقد بقي في نفسه خيط من الأمل على الرغم من اليأس القاتل:

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا

ولكنه يختلط عليه عقله. أول الاختلاط أنه أضاع حس الزمن والعد:

أصلِّي فما أدري إذا ما ذكرتها
اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا

ثم يفقد حس التوجه:

أراني إذا صليت يممت نحوها
بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
وما بي إشراك ولكن حبها
كعود الشجا أعيا الطبيب المداويا

ثم يفقد حسّ المكان:

روى صاحب " الكشكول" أن المجنوزن مر على منازل ليلى بنجد فأخذ يقبِّل الأحجار ويضع جبهته على الآثار فلاموه على ذلك فحلف أنه لا يقبل في ذلك إلا وجههاً ولا ينظر إلا جمالها. ثم رؤي بعد ذلك في غير نجد وهو يقبل الآثار ويلثم الأحجار فليم على ذلك وقيل له: إنها ليست من منازلها فأنشد:

لا تقل دارها بشرقي نجد
كل نجد للعامرية دار
فلها منزل على كل أرض
وعلى كل دمنة آثار

وسواء أصحت هذه الرواية عن المجنون أم لم تصح فهي تمثل حالة نفسية في شدة العشق والهيام أبرع تمثيل.

الحب الصوفي:

إن نكبة المجنون هنا تبدو ذات مغزى فلسفي أو صوفي وهو أن الحب يحمل في نفسه غايته. فالمرء يحب للحب نفسه ويتجاوز صفة المتعلق بمحبوب مسمى إلى حب الحب إلى حب الوجود والتكامل وإن خامر هذا الحب الهلاك والردى.

وعندنا أن الصوفية انتبهوا لقصة المجنون هذه وأفادوا منها في حبهم الصوفي الذي يشمل الكائنات ولكنه يتجاوزها. لنشرح بعض الشيء ما جنحوا إليه ولنفرض مثلاً أن مستهاماً بالقطع الموسيقية أحب سنفونية مشهورة وسعى فحصل بسهولة على تسجيلها ثم أحب ثانية وثالثة وهلم جرا وحصل على تسجيلاتها جميعاً فهو في نهاية الأمر قد حصل على قطع موسيقية جميلة مسجلة ولم يحصل على سر الإبداع وجوهر الإلهام في التأليف الموسيقي.

وكذلك شأن المحب فهو يسعى نحو حبيب أو أحباء ولكنه لا يملك سر الجمال ولا إكسير الحب إنهما يبقيان متجاوزين للظواهر إنهما في القلب الإنساني.

وهكذا يعي الصوفي أو الفيلسوف في قصة المجنون غير ما يعيه الأديب محقق الأخبار وممحصها أو الزمِّيت الذي يرى في القصة الأخيرة إشارة إلى وحدة الوجود وليس الأمر كذلك وإنما المراد في هذا الحديث وحدة الشهود.

وأياً كانت الفحوى لحب قيس فإنا لا نستغرب كيف ارتكز فريق من الصوفية على أخبار المجنون ليصوغوا منها آثاراً فنية رائعة وخالدة مثل نظامي كنجوى (ليلى ومجنون) وأمير خسرو دهلوي (مجنون وليلى) وعبد الرحمن جامي (ليلى والمجنون مترجم إلى العربية). وعبدي بيك شيرازي (مجنون وليلى) فالعشق منقبة من مناقب الإنسان عندهم وخاصة من خصائصه. ولكنه يستلزم العفة والطهر ويقرب من الله حين يعتمد على القلب بعد اعتماده على العقل، إذ العقل يدرك الحقائق في مدى واسع هو مدى الظواهر والعلوم ولكنه يفسح بعد ذلك في المجالات والآفاق لمواهب القلب وطاقات البصيرة.

وعدا الصوفية فقد عالج شوقي أخبار المجنون في مسرحيته المشهورة كما وصلت تلك الأخبار حتى إلى الشاعر الفرنسي الحديث أراغون فسمى أحد دواوينه في زوجته "مجنون السا" تشبيهاً لنفسه بقيس بن الملوّح، وشتان ما بين المجنونين.

وهكذا انقلبت لعنة الحب لدى المجنون إلى نعمة رغبة التشبه به في الحب ولو مجازاً وإلى نعمة العرفان بالله عند الصوفية الذين هم أشد اندفاعاً وأكثر اصطلاحاً في الحب.

لقد بدأنا كتابة هذا الحديث ونحن راغبون في عرض آراء الصوفية عن الحب وفي الموازنة بين مأساة المجنون ومأساة الحلاج التي انتهت إلى الصلب والقتل ضمن مؤامرة ظالمة ولكن فات وقت الموازنة. ومع ذلك فقد يفيد في الخاتمة أن أشير إلى بعض أقوال أبي المغيث(13) الحسين بن منصور.

لو ألقي مما في قلبي ذرة على جبال الأرض لذابت، وإني لو كنت يوم القيامة في النار لأحرقت النار، ولو دخلت الجنة لانهدم بنيانها:

عجبت لكلي كيف يحمله بعضي
ومن ثقل بعضي ليس تحملني أرضي
لئن كان في بسط من الأرض مضجع
فقلبي على بسط من الأرض في قبض

وهو يمر في سوق بغداد ويصيح:

يا أهل الإسلام أغيثوني فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها وهذا دلال لا أطيقه ثم ينشد:

حويت بكلي كل كلك يا قدسي
تكاشفني حتى كأنك في نفسي
أقلِّب قلبي في سواك فلا أرى
سوى وحشتي منه وأنت به أنسي
فها أنا في حبس الحياة ممنَّع
عن الإنس فاقبضني إليك من الحبس

ولما قدم إلى الصلب فهل يجزع؟ هل يشتم جلاديه؟ هيهات! إنه يباركهم فيقول في جملة دعائه:

هؤلاء عبادك اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك وتقرباً إليك فاغفر لهم. فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا. ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت. فلك الحمد فيما تفعل، ولك المجد فيما تريد. ثم سكت وناجى سراً.

ويقول الراوي إبراهيم بن فاتك: فتقدم أبو الحارث السياف فلطمه لطمة هشم أنفه وسال الدم على شيبه. فصاح الشبلي ومزق ثوبه، وغشي على أبي الحسين الواسطي وعلى جماعة من الفقراء المشهورين وكانت الفتنة تهيج ففعل الحرس ما فعلوا.

أو ليس السهروردي(14) مقتول حلب يصور أحوال الصوفية في قصيدته المشهورة التي منها:

بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء العاشقين تباح
ركبوا على سفن الوفا ودموعهم
بحر وشدة شوقهم ملاح
والله ما طلبوا الوقوف ببابه
حتى دُعوا وأتاهم المفتاح
حضروا وقد غابت شهود ذواتهم
فتهتكوا لما رأوه وصاحوا

ويختم قصيدته بالبيت المشهور:

وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح

واهاً لهم!! إنهم مجانين! إنهم مجاذيب! شأنهم كشأن مجاذيب القيم الرفيعة ومجانين العلو الذاتي وعشاق المجد المؤثل وأحباب الخلود الإنساني.

الإنسان قطب المحبة:

والخلاصة أن المحبة في التراث العربي الإسلامي قطبها الإنسان سواء كان محباً للإنسان أو كان محبوباً من أخيه الإنسان وسواء كان حبه لله أو كان حب الله له أو كان الحبان مشتبكين فلا بد من أن يلم به ذلك الحب وأن يغمره بنوره المتألق المتعدد الألوان. على أن غمرة النور هذه تؤدي إلى النشوة والعنفوان أو إلى التبريح والاصطلام هذا لولا النزعات الباغية العدوانية في الميدان السياسي كالنازية والصهيونية. وربما كان الشاعر الكبير محمد إقبال عنى مكانه الحب في التراث حين قال(15):

لم ألق في هذا الوجود سعادة
كمودة الإنسان للإنسان
لما سكرت بخمرها القدسي لم
أحتج إلى تلك التي في الحان


الحواشي:

(1)- البقرة (2) – 273.
(2)- القمر (54)-31.
(3)- الأحزاب (32)-23.
(4)- جزء من شطر بيت مشهور سار مثلاً وهو:

إذا قالت حذام فصدقوها
فإن القول ما قالت حذام

ينسبه صاحب لسان العرب إلى وسيم بن طارق ويقال لُجيم بن صعب وحذام ارمأته.

(5)- شطر من بيتين لمسلم بن الوليد:

كانت بلهنية الشبيبة سكرة
فصحوت واستأنفت سيرة مجمل
وقعدت أنتظر الفناء كراحل
عرف المحل فبات دون المنزل

(6)- جزء من بيت لنصيب بن رباح يصف بكاء ورقاء:

ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا
بكاها فقلت الفضل للمتقدم

وقبله بضعة أبيات نورد منها:

ونبه شوقي بعد ما كنت نائماً
عتوف الضحى مشغوفة بالترنم..
بكت شجوها تحت الدجى فتساجمت
إليها غروب الدمع في كل مسجم
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة
بسعدي شفيت النفس قبل التندم

(7)- مطلع معلقة عنترة وهو أشهر من يشار إليه.
(8)- جزء من بيت المتنبي:

وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها
فإن في الخمر معنى ليس في العنب

(9)- ينشر صديقنا الأستاذ عبد الكريم زهور " كتاب المحبة" تأليف أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد الختلي على صفحات مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق.

هذا وقد ألف الدكتور محمد حسن عبد الله كتاباً بعنوان " الحب في التراث العربي" ونشره في سلسلة الكتب الثقافية التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت.

(10)- لا يبعد أن تكون الأبيات لأبي نواس وهو ما هو في الاطلاع على أسانيد الحديث. والأسماء الواردة في الشعر جميع أصحابها من رواة الأحاديث وهم:

آ- الخفاف هو أبو مخلد عطاء بن مسلم من أهل حلب مات سنة 190هـ.
الأنساب وخلاصة تذهيب الكمال 2/231.

ب- وائل بن حجر بن سعد مسروق روى عن النبيصلى الله عليه وسلم مات في ولاية معاوية.
تهذيب التهذيب 11/108.

جـ- خالد بن مهران الحذاء البصري أبو المنازل مات سنة 140 أو 141.
الأنساب 4/86 وخلاصة تهذيب الكمال 1/284.

د- جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام صحابي مشهود عرف بكثرة حديثه.
خلاصة تهذيب الكمال 1/157.

هـ- مسعر بن كدام أبو سلمة الكوفي أحد الأعلام مات سنة 152هـ.
خلاصة تهذيب الكمال 3/22.

و- عامر – لعله أراد عامراً الشعبي ولا يوجد غيره ممن يصرح باسمه في الرواية انظر أخباره في تاريخ دمشق.
(عاصم – عائد) توفي سنة 138.

ز- ابن جريج هو عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن مات في أول خلافة هشام.
خلاصة تهذيب الكمال 2/175.

ح - سعيد بن المسيب بن مسروق روى عن النبيصلى الله عليه وسلم.
تهذيب التهذيب 11/108.

ط - قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري أحد الأئمة توفي سنة 127.
خلاصة تذهيب الكمال 1/284.

(11)- أخبار المجنون الواردة مأخوذة من الأغاني ومن تزيين الأسواق.

(12)- كتاب الزهرة.
(13)- كتاباً أخبار الحلاج وديوانه.
(14)- ترجمة السهروردي في "إرشاد الأديب".
(15)- إيوان إقبال: مختارات من شعره نظم الصاوي علي شعلان ص 13.


مجلة التراث العربي - مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب- دمشق العددان :15 و 16 - السنة الرابعة - رجب وشوال 1404 - نيسان "ابريل" و تموز "يوليو" 1984