المشاركات الشائعة

الجمعة، 24 ديسمبر 2010

كَلامٌ شَهوانِيٌّ
يانيس ريتسوس

ترجمة: تحسين الخطيب


I

نومٌ شهوانيٌّ، بعدَ الوصالِ. ملاءاتٌ مبلَّلةٌ بالعرقِ
تتدلّى منَ السّريرِ حتّى الأرضِ. أَسمعُ في نوميَ
النّهرَ الجَبَّار. في ايقاعٍ يتلكّأُ. جذوعُ الأشجارِ الهائلةِ
تتدحرجُ معهُ. في أغصانها ألفُ عصفورٍ
يجثمُ ساكناً، يرتحلُ مع أغنيةٍ طويلةٍ
من ماءٍ وأوراقِ أشجارٍ، تقطعها النّجومُ. أُمرِّرُ
يدي، بخفّةٍ، أسفلَ عنقكِ، خائفاً
أن أقطعَ أغنيةَ العصافيرِ في نومكِ. غداً، في العاشرةِ-
حينَ تفتحينَ مصراعَيِّ النّافذةِ، وتندفعُ الشّمسُ في الغرفِ-
سوفُ تُرى العضّةُ فوقَ شفتكِ السّفلى أكثرَ وضوحاً في المرآةِ
ويستحيلُ البيتُ أحمرَ زاهياً، كلُّ شيءٍ مُرقّطٌ
بزغبٍ ذهبيٍّ وأبياتِ شعرٍ قصيّةٍ لم تكتمل بعدُ.

II

عُدتِّ منَ السّوقِ، ضاحكة ً، محمّلة ً
خبزاً، فاكهة ً، وباقةَ أزهارٍ كبيرةً. مرَّرَتِ الرّيحُ-
أُبصِرُ- أصابعها في شعركِ. أقولُ لكِ، مرّةً أخرى:
أنا لا أُحبُّ الرّيحَ. ما حاجتكِ بكلّ هذهِ الأزهارِ؟ أيّهنَّ
رماها الزَّهَّارُ اليكِ؟ لعلَّ صورتكِ
ظلّتْ في مرآتهِ، جُنُبٌ مضاءَةٌ
ببقعةٍ زرقاءَ فوقَ ذقنكِ. لا أُحبُّ الزهورَ. فوقَ صدركِ،
يستلقي بُرعمٌ كِبَرَ النّهارِ كلّهِ. حسناً إذن! إجسلي قُبالتي؛
أريدُ أن أنظرَ إلى منحدرِ ركبتيكِ قُربي، وحيداً، حينَ أدخلُ
حتّى يهبط الليلُ، خفيةً، وينتصبُ راسخاً قمرُ أرضٍ سُفليّةٍ، مفتوناً، فوقَ سريرَيْنَا،
قمرُ ليلةِ سبتٍ بكَمَانٍ، مزمارٍ، وسانتوري.

III


ما زلتُ نائماً. أسمعكِ تنظّفينَ بالفرشاةِ أسنانكِ في الحمَّامِ.
ثمّةَ أنهارٌ،
في ذلكَ الصّوتِ، أشجارٌ، جبلٌ بكنيسةٍ بيضاءَ صغيرةٍ،
وقطيعُ خرافٍ في العشبِ (أَسمعُ الأجراسَ)، حصانانِ أحمرانِ،
ورايةٌ على دَكَّةِ البُرجِ، عصفورٌ فوقَ المدخنةِ؛
نحلةُ عسلٍ تئزُّ في وردةٍ –الوردةُ ترتعشُ-
آهٍ، كم يطولُ الوقتُ بكِ! لا تُسرّحي شعركِ الآنَ،
ذاكَ أنِّيَ نائمٌ –أقولُ لكِ- في انتظارِ فمكِ. لا أريدُ
رائحةَ النّعناعِ في رُضابكِ. سألقي،
حينَ أستيقظُ، أسفلَ المنور، كلَّ أمشاطكِ، دبابيسَ شعركِ، وفراشي أسنانكِ.

IV

ذاتَ يومٍ، ستسألني القصائدُ التي عشتها
في الصّمتِ فوقَ جسدكِ عن أسمائها، حينَ تكونينَ قد رحلتِ.
لكنّني سأكونُ بلا صوتٍ أكلّمها بهِ. ذاكَ أنّكِ اعتدتِّ
المشيَ حافيةَ القدمينِ في الغُرفِ أبداً، ثمّ تحتشدينَ في السّريرِ،
لهباً ضارياً من زغبٍ وحريرٍ. تشبكينَ يديكِ
حولَ ركبتيكِ، سامحةً لأخمصَي قدميكِ الورديينِ المُغْبَرّينِ
أنْ يتمطّيا باستفزازٍ. تَذَكَّرَنِي، هكذا، تقولينَ؛
هكذا تذكَّرني، بقدميَّ الوسختينِ، بشعريَ
يتدلّى فوقَ العينينِ –ذاكَ أنّي بعمقٍ هكذا أراكِ. حسناً إذن،
أَنَّى لِيَ الصوتُ؟ لمْ يَمْشِ الشِّعرُ أبداً على هذهِ الشّاكلةِ
أسفلَ شجرِ التّفاحِ المُزهرِ أبيضَ من غيرِ سُوءٍ في أيِّ جنةِ عَدْنٍ.

V

حينَ لا تكونينَ هنا، لا أعرفُ أينَ أنا. يُفرغُ البيتُ نَفْسهُ. تُرفرفُ السّتائرُ
خارجَ الشُّبّاكِ. مفاتيحُ على الطّاولةِ. على الأرضِ،
مفتوحةٌ حقائبُ سفرٍ من رحلاتٍ عتيقةٍ، بأزياءَ غريبةٍ
لفرقةِ مسرحيينَ كانتْ مرّةً ذاتَ أمجادٍ، ثمّ تفرّقَ شملها،
ذاتَ ليلةٍ انتحرتِ الممثلةُ الرئيسةُ الجميلةُ على خشبةِ المسرحِ. حينَ لا تكونينَ هنا،
يركضُ الجنودُ في الشّوارعِ خارجاً، تصرخُ نساءٌ؛
تدمدمُ الحافلاتُ الثقيلةُ؛ تصفرُ صفّاراتُ الإنذارِ؛
تأتي سيّاراتُ الاسعافِ وتتوقّفُ؛ ممرضاتٌ بثيابٍ بيضاءَ
يُلملمنَ الجرحى من الاسفلتِ، يُلملمنني أيضاً،
ثمّ يحملنني إلى مستشفىً أبيضَ طاهر بلا أسرّةٍ؛
أُغلقُ عينيَّ كطفلٍ مُطوَّقٍ بالبياضِ الخَطِرِ. ظلّتْ
ممرضةٌ في الحديقةِ قُربَ النّافورةِ؛ تنحني وتجمعُ
بعضَ أزهارٍ بيضاءَ نَفَضَتْها الرّيحُ عن أشجارِ السَّنْطِ. ثمّ هناكَ- ينفتحُ البابُ،
فتدخلينَ بسلّةٍ - تفوحُ من الكُمثّراتِ النّاضجةِ رائحةٌ عذبةٌ،
أنائمٌ أنتَ؟ أسمعُ صوتكِ يقولُ. أتنامُ وحدكَ؟ ألستَ في انتظاري؟
أفتحُ عينيَّ. وهَا هُوَ البيتُ. وهَا أنا ذَا. والكرسيّانِ ذوا الذّراعينِ.
كرسيانِ أحمرانِ. وأعوادُ ثقابٍ على الطّاولةِ.
أيّها الضوءُ الأبيضُ، أيّها الدمُ الأحمرُ، أيّها الحُبُّ، أيّها الحُبّ.

VI

دائماً، في الصّباحِ، أنا أكثرُ تعباً منكِ،
ربّما أكثرُ سعادة أيضاً. تنهضينَ بلا ضجيجٍ؛
ملاءاتُ السّريرِ تُخشخشُ قليلاً؛ تمضينَ حافيةَ القدمينِ.
ما زلتُ نائماً في دفءِ جسدكِ العاري
المتروكِ فوقَ السريرِ، غارقاً في عتمةٍ ضاربةٍ إلى البياضِ. أسمعكِ
تغتسلينَ، تُعدّينَ القهوةَ، تنتظرين.
أسمعكِ تَقِفينَ فوقي، حائرةً. ابتسامتكِ
تقطعُ جسدي كلّهُ، تُلِينُ أظافري. أنامُ.
أشرعةٌ بيضاءُ تلمعُ ساكنةً. بطّانيّةٌ
حمراءُ تتدلّى فوقَ حبلِ الغسيلِ. الأحمرُ يُثقلُ أهدابي.
نساءٌ عارياتٌ في النّهرِ. رجالٌ عراةٌ في الأشجارِ.
أحصنةٌ مهيبةٌ (ليستْ حزينةً) تمشي الهُوينى في مياهِ البحرِ الضّحلةِ. أَنْعَظَ أحدها،
فكادَ أنْ يطأَ الماءَ قضيبُهُ الأسودُ. فتاةٌ تنتحبُ.
بمديةِ جيبهِ ينقشُ الصّبيُّ الأرقام 99 على شجرةِ تُوتٍ،
ثمّ يُضيفُ 9 أخرى. أنامُ عميقاً أكثرَ، أكثرَ في الدّاخلِ،
عصفورٌ يجثمُ على لُبدةِ أسدٍ أبيضَ. Tir, tir، صاحَ. العالمُ
طازجٌ ومُنيرٌ ومَنِيٌّ وافرٌ. عمتَ صباحاً أيّها الحُبُّ، عمتَ صباحاً.

VII

لقد أخذتِ كلّ شيءٍ منّي. لَنْ يبقَ للموتِ أيَّ شيءٍ يأخذهُ.
داخلَ جسدكِ أتنفّسُ. بذرتُ ألفَ صبيّ في حقلكِ المبلولِ بالعرقِ؛
ألفَ حصانٍ تَخبُّ على الجبلِ، تجرُّ وراءها أشجارَ تنّوبٍ مُجتثّةً؛
هبطتْ صوبَ ضواحي القريةِ، رفعتْ رؤوسها،
تفرّستْ بعيونها اللوزيّةِ السّوداءِ في الأكروبولِس، الأضواءِ الطويلةِ للمصابيحِ،
فتحتْ أهدابها القصيرةَ ثمّ أغمضتها. أوصلتها أضواءُ إشاراتِ المرورِ الخضراءُ والحمراءُ
إلى حيرةٍ نزقةٍ. شرطيُّ المرور هذا يُحرّكُ يديهِ كما لو يحصدُ ثمرةً محجوبةً منَ الليلِ
أو يقبضُ على نجمٍ من ذيلهِ. تُديرُ ظهورها
كما لو هُزمتْ في معركةٍ لم تُخَض أبداً. ثمُ، فجأةً،
تهزُّ أعرافها مرّةً أخرى وتخبُّ صوبَ البحرِ. كنتِ على صهوةِ أكثرها
بياضاً، عاريةً. صحتُ عليكِ. يُطوّقُ
نهديكِ –بالعرض- غُصينا لبلابٍ. حلزونٌ
يستلقي ساكناً فوق شعركِ. أصيحُ بكِ: يا حُبّي. ثلاثةُ مقامرينَ، مستيقظينَ طوالَ الليلِ،
يدلفونَ إلى حانوتِ حليبِ الحيّ. إِنَّ النهارَ ينبلجُ.
تنطفئُ أنوارُ المدينةِ. ظلُّ الأزرقِ الشّاحبِ الهائلِ ينهمرُ ناعماً
فوقَ جلدكِ. إِنِّيَ فيكِ. أصرخُ من داخلكِ. أصرخُ عليكِ
هُنَا حيثُ صاخبةً تحتشدُ أنهارٌ وتتدحرجُ السّماءُ
في الجسدِ الآدميِّ، رافعةً معها
مخلوقاتٍ وأشياءَ فانيةً –بطّاً بريّاً، نوافذَ، جواميسَ،
صنادلكِ الصّيفيّةَ، إحدى أساوركِ، قنفذَ بحرٍ، يمامتينِ-
صوبَ الأراضي المفتوحةِ من خلودٍ لا يُفسَّرُ أو يُنشَد.

VIII


لا أريدُكِ أن تصعدي السّلالمَ الرّخاميّةَ للمستشفياتِ. لا أريدُكُِ أن تَقِفي
أمامَ البابِ نصفِ الموصدِ لغرفةِ العميلّةِ الجراحيّةِ –لحمٌ مُمزَّقٌ، دمٌ-
إنّها ليستْ طمثَكِ الذي يدوم 27 يوماً، مع أنّ ذلك يجعلني أتراجعُ، يَعوقُني، يَفتِنُني. خُلقَ الدّمُ
كي يَسري خفيّاً في العروقِ، كي يُسمَعَ في الليلِ،
قلباً إلى قلبٍ، كموسيقى على الأرضيّةِ في الأسفلِ حيثُ كانَ زوجانِ أُخريانِ
يتهيّآنِ لتعميقِ حبّهما بالموسيقى. لا أريدكِ
أن تتسكّعي في هذهِ الأروقةِ التي برائحةِ
اليُودوفورم، الكافورِ والموتِ. لا أُريدكِ أنْ تكوني
ممرضةَ أحدٍ، ولا حتّى ممرّضتي أنا. لا أريدكِ أن تعتني
بالمُقعدينَ، التّماثيلِ المبتورةِ والقُمْرِيَّةِ
التي هشّمَ الخُرْدُقُ جناحها الأيمنَ. لا أريدُ لابتسامتكِ
أنْ تهبطَ على الأجسادِ العاريةِ المذبوحةِ، حتّى لو كانتْ لرفاقي. تَصِيرُكِ
إِذْ تظلُّ ساكنةً في فمكِ، أو ببضعةِ حركاتٍ
كي تُهيمنَ على الأمواجِ أمامَ السّريرِ، أو على الأكثرِ تُمشّطينَ
شعريَ المبلولِ بأشكالٍ جميلةٍ، بهيجةٍ من صنعكِ، أو حتّى حينَ
تُحضرينَ الصّينيّةَ الكبيرةَ بالشّاي كلّ صباحٍ كما لو كنتِ تُحضرينَ
قيثارةً، بلا أيِّ نِيَّةٍ للعزفِ، طالما أنّ القيثارةَ
تعزفُ من تلقاءِ نفسها كلّما رفعتُ عينيَّ نحوكِ. لأنّ –مثلما تعرفينَ-
على الجوهرةِ ناريّةِ اللّونِ للخاتم الذي أعطيتنيهِ تلمعُ
مدينةٌ مضاءةٌ بفوانيسَ خضراءَ. في جادّاتها
يُدوّمُ راقصونَ صغارٌ بفوانيسَ ورقيّةٍ قُرمزيّةٍ وأزهارِ أقحوانٍ،
ومنَ الشّرفةِ يَرشُّ شابٌّ شعورهم بقصائدي الممزَّقةِ.
لهذا أُقلِّبُ الجوهرةَ، كي أضغطها
بكفيَّ حتّى لا تستطيعَ عينُ غريبٍ حسودةٌ أو بريئةٌ
أنْ تسحرَ هذهِ السّعادةَ التي لا تنفدُ فِيَّ، خارجَ الزّمنِ،
ذاكَ أنّا في الصّباحِ التّالي لنْ نعثرَ على الأيائلِ الثلاثةِ مقتولةً في المصعدِ.

IX

كم أنتِ جميلةٌ. إِنَّ جمالكِ يُفزعني. أَجوعكِ. أَظمؤُكِ.
أُناشدكِ، احتجبي؛ احتجبِي على الكُلِّ، ولا تترائِي إِلاّ لِي أنا وحدي. مُغطّاةً،
من رأسكِ حتّى أخمصَي قدميكِ، بحجابٍ مُعتمٍ، شفّافٍ
مُرقّطٍ بتنهيداتٍ فضيّةٍ من أقمارِ الرّبيعِ. مسامُكِ تبعثُ
حروفَ علّةٍ، حروفاً ساكنةً مُشتاقةً؛ كلماتٍ غامضةً لُفِظَتْ،
انفجاراتٍ ورديّةً منَ الوِصَالِ. حجابُكِ يعلو، يلمعُ
فوقَ المدينةِ التي أدركها الليلُ بحاناتها خافتةِ الإنارةِ، أماكنِ البحّارةِ المألوفةِ؛
كشّافاتٍ خضراءَ تُنيرُ ليلَ الصيدليّاتِ، كرةِ زجاجٍ
تُدوّمُ مُسرعةً تَبِينُ عن صورةٍ لكوكبِ الأرضِ. السكّيرُ يترنّحُ
في عاصفةٍ هبّتْ من تنفّسِ جسدكِ. لا تذهبي. لا تذهبي. واضحةً جدّاً، ومراوغةً. ثورٌ
حجريٌّ يثبُ من القَوْصَرَةِ فوقَ العشبِ النّاشفِ. امرأةٌ عاريةٌ تصعدُ السلّمَ الخشبيَّ
حاملةً طَسْتَ ماءٍ ساخنٍ. يُخفي البخارُ وجهها. عالياً، في الهواءِ،
مروحيّةُ استطلاعٍ تَسُفُّ مواضعَ عشوائيّةً. احترسِي.
إنّهم يطلبونكِ. اختبئِي عميقاً أكثرَ في يديّ. يكبرُ فَرْوُ
البطّانيّةِ الحمراءِ التي تُغطّينا ويكبرُ حتّى
يصيرَ دُبَّةً حُبلى. تحتَ الدُّبَّةِ الحمراءِ
نمارسُ الحُبَّ بلا انقطاعٍ، أبعدَ من الزّمنِ أبعدَ منَ الموتِ،
في وئامٍ كُلّيٍّ، مُتوحّدٍ. كم أنتِ جميلةٌ. إِنَّ جمالكِ يُفزعني.
وأجوعكِ. وأظمؤُكِ. وأمجّدكِ: احتجبِي.

X

كلُّ الأجسادِ التي لمستُها، رأيتُها، نِلتُها، حلمتُ بها –كلّها-
تكاثفتْ في جسدكِ. آهِ، يا دِيُوْتِيْمَا الشّهوانيّة
في سِمْبُوزْيَمِ الإغريقِ العظيمِ. لقد رحلَ عازفو المزاميرِ،
رحلَ الشّعراءُ والفلاسفةُ. والشّبابُ الوسيمونَ للتوّ قد ناموا
بعيداً في غرفِ نومِ القمرِ.وحيدةٌ أنتِِ
في ابتهاليَ الصّاعدِ. صندلٌ أبيضُ
بسيورٍ بيضاءَ طويلةٍ رُبِطَ إلى رجلِ الكرسيِّ. أنتِ نسيانٌ مُطلقٌ،
ذاكرةٌ مُطلقةٌ أنتِ. أنتِ رِقّةٌ لا تنكسرُ. إِنَّ النّهارَ ينبلجُ.
إِجَّاصاتٌ شوكيّةٌ مُكتنزةٌ تَشْطَأُ من الصّخورِ. شمسٌ ورديّةٌ
تستلقي ساكنةً فوقَ بحر مُوْنُوْفِاسْيَا. ظلّنا الثّنائيُّ
بَدَّدَهُ الضوءُ على أرضيّةِ الرّخامِ بسجائرها الكثيرةِ المُداسَةِ،
بأزهارِ ياسمينها الصّغيرةِ المُعلّقةِ على إِبَرِ الصّنوبرِ. آهِ، يا ديوتيما الشّهوانيّة،
يا مَنْ وَلَدتِني ويا مَنْ وَلدتُكِ، آنَ أنْ نَلِدَ الأدوارَ والقصائدَ، أنْ نمضي في العالمِ. ولا تَنسَيْ،
حينَ تذهبينَ إلى السّوقِ، أنْ تشتري كومةَ تفّاحٍ،
ليسَ ذهبيَّ هِسْبِردِيْزَ، بل الأحمرَ الكبيرَ، ذاكَ أنّكِ حينَ تقضمينَ
لُبّها القاسيَ بأسنانكِ اللامعةِ، تظلُّ ابتسامتُكِ الحيويّةُ
عالقةً كأبديّةٍ فوقَ الكُتُبِ.

XI

أُريدُ أن أَصِفَ جسدكِ. لا حَدَّ لجسدكِ. جسدُكِ
بتلةُ وردٍ ناعمةٌ في زجاجِ ماءٍ صافٍ. جسدكِ
غابةٌ وحشيّةٌ بأربعينَ حطّابٍ أسودَ. جسدكِ
أوديةٌ رطبةٌ عميقةٌ قبل شروقِ الشّمسِ. جسدكِ
لَيْلَتَانِ بِجَرَسِ بُرجينِ، بِشُهُبٍ وقطاراتٍ خارجةٍ عنِ السِّكَّةِ. جسدكِ
حانةٌ خافتةُ الإنارةِ ببحّارةٍ سُكارى وبائعي تبغٍ؛ يُفرقعونَ أصابعهم في الرّقصِ،
يكسرونَ زجاجاً، يبصقونَ ويلعنون. جسدكِ
أسطولٌ بحريٌّ بكاملهِ –غواصاتٌ، بوارجُ، سفنٌ مدفعيّةٌ؛ هَا قَدْ
رُفِعَتِ المراسِيُّ التي تَرِنُّ وغمرَ الماءُ ظهورها؛ بحّارٌ
يقفزُ من الصّاري في البحرِ. جسدكِ
صمتٌ مُتعدِّدُ الأصواتِ مَزَّقتهُ خمسُ سكاكينَ، ثلاثُ حرباتٍ، وسيفٌ واحدُ. جسدكِ
بحيرةٌ شفّافةٌ تُرَى في أعماقها المدينةٌ البيضاءُ. جسدكِ
أخطبوطٌ هائلٌ رهيبٌ بمجسّاتٍ نازفةٍ في حوضِ زجاجِ القمرِ
فوقَ الجادّاتِ المُنَارةِ حيثُ، في الظّهيرةِ،
مَرَّتْ بجلالٍ ثقيلٍ جنازةُ الإمبراطورِ الأخيرِ. أزهارٌ كثيرةٌ مُداسَةٌ
مُبلَّلةٌ بالبنزينِ ظَلَّتْ على الإسفلتِ. جسدكِ
مبغىً عتيقٌ في سُوْبِيْرْبْيَا سْتْرِيْتْ بغانياتٍ عجائزَ تبرّجنَ
بأحمرِ شفاهٍ برّاقٍ رخيصٍ، يضعنَ أهدابَ جفونٍ زائفةً؛
وثمّةَ، هنالكَ، أيضاً، غانيةٌ شابَّةٌ غِرَّةٌ – تُمتِّعُ نفسها مع كلِّ الزبائنِ،
تتركُ نقودها على طاولةِ الليلِ، تنسى أن تَعُدَّها. جسدكِ
صبيّةٌ مُشرقةٌ؛ إنّها تجلسُ أسفلَ شجرةِ التّفاحِ تأكلُ
قطعةَ خبزٍ طازجٍ وبندورةٍ مُمَلَّحَةٍ؛ الآنَ، ثانيةً،
تغرزُ بُرعمَ تفّاحٍ بينَ نهديها. جسدكِ
صَرَّارُ ليلٍ في أُذُنِ جَاني العنبِ –إنّهُ يطرحُ ظلاًّ بنفسجيّاً على عنقهِ الذي لوّحتهُ الشّمسُ
وَلِوحدهِ يُغنّي كلَّ ما لا تستطيعُ الكُرومُ أنْ تقولَهُ جميعها. جسدكِ
مَرقبٌ، أرضُ دِرَاسٍ كبيرةٌ على رأسِ التّلَّةِ-
سبعةُ أحصنةٍ بيضاءُ كالثلجِ تَدْرُسُ عبرَ حُزَمِ الكتابِ المُقدّسِ؛ قشٌّ ذهبيٌّ
يشبكُ مرايا صغيرةً فوقَ شعركِ، والأنهرُ الثلاثةُ تلمعُ
حيثُ تنحني بقراتٌ كبيرةٌ سوداءُ برؤوسٍ قاسيةٍ،
تشربُ الماءَ، وتبكي. جسدكِ لا حدَّ لَهُ.
جسدكِ لا يُوصَفُ. أريدُ أنْ أَصِفَهُ،
أنْ أقبضَ عليهِ بِشِدَّةٍ قُبالةَ جسدي، أنْ أحتويهِ وأنْ أُحتَوَى.

XII

النّهارُ مجنونٌ. البيتُ مجنونٌ. ملاءاتُ السّريرِ مجنونةٌ.
وأنتِ، كذلكَ، مجنونةٌ؛ ترقصينَ بالسّتارةِ البيضاء بينَ ذراعيكِ؛
تطرقينَ على الكِفْتِ فوقَ أوراقي كَرِقٍّ؛
تركضُ القصائدُ في الغرفِ؛ تفوحُ رائحةُ الحليبِ المُحترقِ؛
ينظرُ الحصانُ البلّوريُّ خارجَ النّافذةِ. انتظري –أقولُ –
لقد نسينا الحاملَ ثلاثيَّ القوائمِ لِفِيْمُوْنُوْيْسَ في مبنى نقابةِ الحطّابينَ؛
كانَ مقلوباً رأساً على عقبٍ. لقد نسينا قمرَ البارحةِ النّازفَ،
الأرضَ المحروثةَ للتَّوِّ. عربةٌ تعبرُ محمّلةً دُفلَى.
أظافركِ بتلاتُ وردٍ. لا تلتمسي الأعذارَ. لقد وضعتِ في خزانتكِ
حقائبَ تُوْلٍ مملوءَةً خُزامى. مظلاّتُ الشّمسِ جُنَّتْ،
صارتْ متشابكةً بأجنحةِ الملائكةِ. تُلوّحينَ بمنديلكِ؛
مَنْ تُحَيِّينَ؟ أيَّ ناسٍ تُحَيِّينَ؟ -العالَمَ كُلَّهُ.
سلحفاةُ ماءٍ سمراءُ استقرّتْ مُرتاحةً فوقَ ركبتيكِ؛
طحالبُ بحريّةٌ نديّةٌ تتحرّكُ فوقَ صدفتها المنحوتةِ. وترقصينَ.
طَارَةُ برميلٍ من عصورٍ غابرةٍ تتدحرجُ أسفلَ التَّلِّ
ثُمَّ تسقطُ في الجدولِ، راشقةً قطراتٍ تُبلّلُ قدميكِ،
لكنّكِ، في رقصكِ، لا تسمعينني. حسناً إِذن، الأمدُ
زوبعةٌ، الحياةُ دوريّةٌ، لا نهايةَ لها. ليلةَ أمسِ
مَرَّ الفارسُ. فتياتٌ عارياتٌ على أردافِ الخيولِ؛
رُبّما لهذا كانتِ الإوزّاتُ البريّةُ تصرخُ في جرسِ البُرجِ، لم نسمعها
حينَ غرقتْ حوافرُ الخيلِ في نومنا. اليومَ، أمامَ بابكِ،
وجدتِ حدوةَ حصانٍ فضيّةً. علّقتها فوقَ عتبةِ البيتِ. يَا لِحُسنِ طالعي –صِحْتِ-
يَا لِحُسنِ طالعي –صِحْتِ- ثمّ رقصتِ. قُربكِ، ترقصُ المرآةُ الطّويلةُ أيضاً،
تلمعُ بألفِ جسدٍ وتمثالِ هِيْبالِيْتَس مُكلَّلاً بالخشخاشِ.
لقد رحلَ ببغائي –تقولينَ كلّما رقصتِ –ولا أحدَ يُقلِّدُ ثانيةً صوتي؛ إلى الأبدِ، إلى الأبدِ –
هذا الصوتُ الذي ينبعثُ منّي يخرجُ من غابةِ دُوْدُوْنَا
بحيراتٌ صافيةٌ تصعدُ في الهواءِ بكلِّ زنابقها البيضاءِ،
بكلِّ نباتاتِ قيعانها. نقطعُ قَصَبَاً،
ونقيمُ كوخاً ذهبيّاً. بِمَشَقَّةٍ تصعدينَ الى السّقفِ.
بِكِلتا يديَّ أقبضُ على كاحليكِ. لا تهبطينَ.
تطيرينَ. تطيرينَ في الزّرقةِ. تسحبيني معكِ
ذاكَ أنّيَ أقبضُ على كاحليكِ. من كتفيكِ
تسقطُ المنشفةُ الزرقاءُ الكبيرةُ على الماءِ؛ تطفو لبُرهةٍ ثُمَّ
بِطَيَّاتٍ واسعةٍ تغرقُ، تاركةً على وجهِ الماءِ
نجمةً خماسيّةً ترتعشُ. لا تذهبي أبعدَ –صرختُ. أعلى. وفجأةً،
نهبطُ، بارتطامٍ أخرسَ، على السّريرِ الخُرافيِّ. هَا أَنصِتي –
في الشّارعِ، أسفلَ، يعبرُ المُضربونَ بلافتاتهم وأعلامهم.
أَلا تسمعينهم؟ لقد تأخّرنا. خُذي أيضاً منديلكِ الذي ترقصينَ بهِ. لِنذهبَ. أشكركِ، يا حُبّي.

أثينا، 1981


ترجمها من الانجليزيّة: تحسين الخطيب

عن موقع
elaph
تـنتظر الملك
جمانة حداد


رنت شهرزاد نحو شهريار بطرفها الكحيل وقالت:
لقد طال انتظاري، بربّكَ غازلني! هذا موعدي، وجسدي لن يمهلكَ. فالشفتان أضناهما العوز والحديقة استوحشت ومكامن الجنة والجحيم قد نصبت لكَ فافترشها.
العطش حان، ولي ألف تنهيدة غرستها في تربتي لتسقيها، ولي فراشة تائهة استضافها صدري لتحرقها. المائدة خلعت زينتها ولم تترك إلا الشوكة والسكين. بربك غازلني! المائدة كثيراً قد اشتاقت والشوكة والسكين لا يحتملان الانتظار.
شهوتي ثورةٌ في كهف. تنتقم وتعصى وتنشد ما لم ترَ بعد. لشدّة الظلام في الكهف لا تبصر إلا بلسانها.
شهوتي صرخةٌ على متن عاصفة صماء. هيا إثأر لي من خجلي الذي يستعبدني فتتبخر القضبان وأحلّق! كن الفارس كن الشهيد كن الارهابيّ واللص ايضاً، فما أطيب العسل حين يُسرق. الحقّ أقول لك هذا موعدي وجسدي لن يمهلك.
قمْ وارحل الى البعيد. لا تخف نهاية الرحلة، فأنا ساكون دائماً اللحظة الأبعد. فتّح براعم الغيب فيّ واجعلني أنشودة بين الحضن والصدى. سأقيم لحظة على جبينك. سأقيم دهراً على عنقك. الشفتان أضناهما العوز والحديقة استوحشت ومكامن الجنة والجحيم قد نصبت لك.
ايها الجبان، إلى متى أقصّ عليك الحكايات وفمي عاطلٌ عن القبل؟ هيا تسلق أبراج الليل! القمر مضجعي. عانقني فأهبلك حفنةً من النجوم وأجعلك تكتشف يديك والنيازك التي ستسقط عليك.
هيا أمخر عباب بحري! كن الزورق كن المجاذيف كن حركة الموج داخلي. كن!
قالت شهرزاد : لقد طال انتظاري، غازلني بربك. قد أحبك...
وحين فهم شهريار أخيراً ذلك الهمس الذي يتأرجح في عيني المرأة، صدّق وبسط ذراعيه ليأخذ. فأدرك شهرزاد الصباح وسكتت عن الكلام المباح. اتخذت احلامها وسادةً، ونامت تنتظر الملك الذي سيفهم لكنه لن يأخذ بل سيمنح.
دعوة الى عشاء سري
جمانة حداد



العاشقة لا يفتك بها الانتظار، لا تقدر ان تخاف، وإن كانت تجهل بقية الحكاية. فالحكاية أنت، والبقية حتماً ستأتي. هي تحزن لأنك لم تقفز من عينيها بعد، لم تنزل في يديها، لم تدهشك شعوبها. هي تحزن من أجلكَ، لأنك لا تعلم كم سوف يكون لك قمرٌ على ثغرها، وذهبٌ على خدها، وامرأة جديدة في كل ركن من أرضها.
العاشقة تخصب وحدتها بالحب والشهوات المجنحة والفوضى الشهية. تستحضر ظلال الآخرين غير البريئة لئلا يخبو عطش المحرقة، لكن الآخرين قوتٌ لانتظارها، ونشوتها العاجلة سريرٌ بارد في أغنية الجسد. توقها اليك يستعبد فيها كل ما كان ثائراً ويطلق ضفائر كل ما كان مأموراً. اللهفة تسكن فردوسها المعلّق، وهي لا تحفل بالسياج والنساء والبراءة المفتعلة، فقد جهّزت لك رغبات طائشة سوف تتزاحم على الاحتفال بجسدك متى حصل، وآنذاك لن تختصر ولن تكبت ولن تهدر: ستأخذ ما هو لها وما قد لا يكون لها.
العاشقة تنهض الهواجس والخيالات وترمق الغياب بابتسامة شاردة فيخترع لها حاضراً مستحيلاً وندماً لذيذاً لا يتثاءب وكائنات تشبه الازهار، سوف تدلّكَ على الطريق وتتهلل للمعجزة حين تهتدي اخيراً الى اميرة العاصفة. يتسرّب الشوق من فراش الأميرة العاشقة ومن ثيابها ومن عدم ثيابها مهما كتمت. يهرع الى البحث عنك، فإلى مزيد من الصور الغبارية والاشكال الفارغة. يتسرّب الشوق من فراش العاشقة ويستميل الشعر الى كوكب ملؤه انت وبعض الشموس وحرّ كثير.
العاشقة لك. انت عمادها وفي تربة راحتيك تغرز جذورها السموية. تحمل لها في عينيك نداء الاشتعال ووعداً بانقشاع السكينة، وكم تشبه في أوجاعها حبّ ما قبل الحب الاول! تحول قبلتك دون خروجها الى الآخر، ويحول الآخر دون تراكم قبلاتك عليها. لم ترسل لها الحرائق، لكنّ ما صنعته شفتاك هائل. اما ما لم تصنعاه بعد، فهائلٌ ايضاً.
العاشقة فيك. قد تظنّأنك تستطيع تغييبها لكنها تحبس عصافيرك وأفكارك واللذة في غابتها. وعند المساء خصوصاً، وفي الصباح ايضا، أنتَ تصنع منها اللمسة والنبع والحياة. ومتى قصدتها حقاً، سوف تفقدك انتصاراتك وخيباتك السابقة كي تهدي اليك ذنوبك الآتية.
العاشقة اليكَ، ولن يتعبها المسير. سوف تنبثق دون انقطاع من واقعها كي تستدرجك الى نوافذها، حلماً يحميها من اليقظة الفقيرة فيطير بها بعيداً ولا يحط إلاّ على وجهك.
العاشقة لكَ، فيكَ، إليكَ. تتأرجح في نومها بين نسيان قليل ونسيان كثير، لكنها لا تغفو ولا تستيقظ إلاّ على رغبة فيك لن تندمل. تجعلك إلهاً متى نظرتَ نفسك في عينيها، وتعيدك رجلاً متى نظرتْ هي في عينيك ونادت. لا تغفل الدعوة الى عشائها السري، فالعاشقة متأهبة ولاتريد ان تنتظر.

جمانة حداد ¤

لــن
جمانة حداد

لا تتوهّم: لن تكون مهمّتكَ سهلة.
لن أدّعي البراءة والسذاجة والجهل. ستراه دهائي بكل شراسته.
لن ألهب باسمك جمر اصابعي. سيكون عليك ان تتسلّل الى الموقدة.
لن أمسك بيدك وأدلّك على الطريق. دربكَ إليّ اكتشفها. والأحسن؟ ان تشـقّها...
لن ازعم أني لا أريدك كي أهدّىء من روع جوعك: إعرفْ أنّي أريد أريد ولن أفتح الباب.
لن أرتدي اقنعة الوداعة والحياد: آمرة عليك أنوثتي بكل فحولتها.
إسأل ما شئت، كلّما عرفت خسرت: بياضك سلّمك إليّ ولن تربحني إلا بالفطرة.
لن أتحايل وأساوم وألعب: صدقي شـرّ من ألف كذبة.
لن أفقد صبري وأستعجل مهما علت مياهي. سيكون عليك أن تنتظر. وأنتظر.
لن أعطيك أملا الا واهما، ونداء الا مفخخا، وبريقا الا لأخطفه.
لن أطوّع من اجلك خطورتي: دع همجيتك تروّضني.
لن أمنع نفسي عن التوق اليك: فكلّما تـقتك اكثر حاربتك اشدّ، وكلّما حاربتك أشدّ أخذتني اقوى.
لن تلبّي دعوتي فورا. سيكون عليّ أن أحترق.
لن أقول لك تعال. سيكون عليك ان تـقتحم.


عن موقع جمانة حداد

عودت ليليت ¤جمانة حداد

عودة ليليت
جمانة حداد


ليليت : جاء ذكرُها في الميتولوجيات السومرية والبابلية والأشورية والكنعانية، كما في العهد القديم والتلمود. تروي الأسطورة أنّـها المرأة الأولى، التي خلقها الله من التراب على غرار آدم. لكنّ ليليت رفضت الخضوع الأعمى للرجل وسئمت الجنّة، فتمرّدت وهربت ورفضت العودة. آنذاك نفاها الربّ الى ظلال الأرض المقفرة، ثم خلق من ضلع آدم المرأة الثانية، حوّاء

مبـتـدأ أوّل

أنا ليليت المرأة القَدَر. لا يتملّص ذَكَرٌ من قدري ولا يريد ذكرٌ أن يتملّص
أنا المرأة القَمَران ليليت. لا يكتمل أسوَدهما إلا بأبيضهما، لأنّ طهارتي شرارةُ المجون وتمنّعي أول الاحتمال. أنا المرأةُ الجنّة التي سقطت من الجنّة وأنا السقوط الجنّة
أنا العذراء ليليت، وجه الداعرة اللامرئي، الأم العشيقة والمرأة الرجل. الليلُ لأني النهار، والجهة اليمنى لأني الجهة اليسرى، والجنوب لأني الشمال
أنا المرأة المائدة وأنا المدعوون اليها. لُـقبّتُ بجنّية الليل المجنحة، وسمّاني أهل سومر وكنعان وشعوب الرافدين إلهة الاغراء والرغبة، وسمّوني إلهة اللذة المجانية وشفيعة الاستمناء. حرّروني من شرط الانجاب لأكون القَدَر الخالد
أنا ليليت النهدان الأبيضان. لا يقاوَم سحري لأنّ شَعري أسوَد طويل وعينيّ عسليتان. جاء في تفسير الكتاب الأول أني من ترابٍ خُلقتُ، وجُعِلتُ زوجة آدم الأولى فلم أخضع
أنا الأولى التي لم تكتفِ لأنّها الوصال الكامل، الفعل والتلقي، المرأة التمردُ لا المرأة الـ نعم. سئمتُ آدمَ الرجل وسئمتُ آدمَ الجنة. سئمتُ ورفضتُ وخرجتُ على الطاعة. عندما أرسل الله ملائكته لاستعادتي كنتُ ألهو. على شاطىء البحر الأحمر كنتُ ألهو. شاؤوني فلم أشأ. روّضوني لأتروّض فلم أتروّض. أنزلوني الى المنفى لأكون وجع الشرود. جعلوني الرهينةَ للقفر من الأرض والفريسةَ للموحش من الظلال، وطريدةَ الكاسر من الحيوان جعلوني. عندما عثروا عليَّ كنتُ ألهو. لم أستجب فشرّدوني وطردوني لأني خرجتُ على المكتوب. وعندما طردوني بقي آدمُ زوجي وحيداً. وحيداً ومستوحشاً وشاكياً ذهب الى ربه، فخلق له ربّهُ امرأةً من ضلعه تُدعى حوّاءَ وسمّاها النموذج الثاني. لتطرد الموت عن قلبه خلقها، وتَـضْمَن استمرار الخلق
أنا ليليت المرأة الأولى، شريكةُ آدمَ في الخلق لا ضلع الخضوع. من التراب خلقني إلهي لأكون الأصل، ومن ضلع آدمَ خلق حواء لتكون الظل. عندما سئمتُ زوجي خرجتُ لأرثَ حياتي. حرّضتُ رسولتي الأفعى على إغواء آدمَ بتفاح المعرفة، وعندما انتصرتُ أعدتُ فتنة الخطيئة الى الخيال ولذة المعصية الى النصاب
أنا المرأةُ المرأة، الإلهةُ الأم والإلهةُ الزوجة. تخصّبتُ لأكونَ الإبنة وغوايةَ كلّ زمان. تزوّجتُ الحقيقةَ والأسطورةَ لأكون الإثنتين. أنا دليلةُ وسالومي ونفرتيتي بين النساء، وأنا ملكةُ سبأ وهيلانةُ طروادة ومريمُ المجدلية
أنا ليليت الزوجةُ المختارة والزوجةُ المطلّقة، الليلُ وطائرُ الليل، المرأةُ الحقيقةُ والأسطورةُ المرأة، عشتار وأرتيميس والرياح السومرية. ترويني اللغات الأولى وتفسّرني الكتب، وعندما يرد ذكري بين النساء تمطرني الأدعيةُ باللعنات
أنا العتمة الأنثى لا الأنثى الضوء. لن يحصيني تفسير ولن أرضخ لمعنى. وَصَمتني الميتولوجيا بالشرور ورشقتني النساء بالرجولة، لكني لستُ المسترجلة ولا المرأةَ اللعبة، بل اكتمال الأنوثة الناقصة. لا أشنّ حرباً على الرجال ولا أسرق الأجنّة من أرحام النساء، فأنا الشيطانة المطلوبة، صولجان المعرفة وخاتم الحب والحرية
أنا الجنسان ليليت. أنا الجنس المنشود. آخذ لا أُعطى. أعيد آدمَ الى حقيقته، والى حواء ثديها الشرس ليستتبّ منطق الخلق
أنا ليليت المخلوقةُ الندّ والزوجةُ الندّ
ما ينقص الرجل كي لا يندم
وما
ينقص
المرأة
كي
تكون

***

عودة ليليت
(مقاطع من قصيدة طويلة)
جمانة حداد

أنا ليليت إلهةُ الليـلَين العائدةُ من منفاها.
أنا ليليت العائدةُ من سجن النسيان الأبيض، لبوءة السيّد وإلهة الليـلَين. أجمعُ ما لا يُـجمع في كأس وأشربه لأنّي الكاهنة والهيكل. لا أترك ثمالةً لأحد كي لا يُـظنَّ ارتويت. أتجامعُ وأتكاثرُ بذاتي لأصنع شعباً من ذريتي، ثم أقتلُ عشّـاقي كي أفسح للذين لم يعرفوني.
أنا ليليت المرأةُ الغابة. لم أعرف انتظاراً يُـرجى لكنّي عرفتُ الأسُود وأصناف الوحوش الأصيلة. ألقّح جميع أنحائي لأصنع الحكاية، أجمع الأصوات في رحمي لـيكتمل عدد العبيد. آكل جسدي كي لا أُعيَّر بالجوع وأشرب مائي كي لا أشكو عطشا. ضفائري طويلة من أجل الشتاء وحقائبي غير مسقوفة. لا يرويني شيء ولا يشبعني شيء، وأعود لأكون لبوءة الضائعين في الأرض.
حارسةُ البئر أنا وملتقى الأضداد. القبلات على جسدي ندوبُ الذين حاولوا. من ناي الفخذين يطلع غنائي ومن غنائي تذهب اللعنة مياهاً في الأرض.
أنا لعنةُ اللعنة التي سبقتْ
مضلِّلةُ الزوارق كي لا تستتبّ عاصفة
أسمائي لترصّع ألسنتكم إن كان بكم عطش
اتبعوني مثلما تتبع اللمسةُ القبلة
وخذوني مثل ليلٍ على صدر أمّه.
أنا ليليت سرُّ الأصابع حين تلحّ. أشقُّ الطريق وأكشفُ الأحلام وأشرّعُ مدن الذكورة أمام طوفاني. لا أجمع اثـنين من كل جنس بل أكونهما كي يرجع النسل نقياً من كل طهر.
أنا آيةُ التفاح. كتبتني الكتب وإن لم تقرأوني. اللذة الفالتة الزوجة العاقة اكتمال الشبق الذي يصنع الدمار العظيم. قميصي نافذةٌ على الجنون. كلّ من يسمعني يستحق القتل وكل من لا يسمعني يقتله تبكيت ندمه.
أنا ليليت قمرُ الداخل
التيه بوصلتي ومقامي الهجرة
ليس من ساعٍ يقرع بابي
ليس من بيتٍ يفضي الى نافذتي
وليس من نافذة الا وهم نافذة.
لستُ الحرون ولا الفرس السهلة بل ارتجافُ الإغراء الأول.
لستُ الحرون ولا الفرس السهلة بل اندحارُ الندم الأخير.
أنا التي حُبِل بها تحت برج التلمّظ
التي وطأتُـها لتزداد
التي لسانُـها قفيرُ نحل
التي فطيرةٌ لتُـلتَهم ولكن لتظلّ
التي جوعٌ ليصرخ
التي كي تحفظ التيه.
أنا غرورُ النهدين
صغيران لينموا ويضحكا
ليطالبا ويؤكلا
نهداي مالحان
شاهقان لا أبلغهما
قبِّـلوهما عنّي.
السراجان ليومئا بضوءين
الصغيران ليُـغفَر لهما حين يعبثان.
أنا الملاكُ الماجنة. فرس آدم الأولى ومفسدة ابليس. خيال الجنس المكبوت وصرخته الأصفى. الحيية لأنّي حورية البركان والغيور لأني وسواس الرعونة الجميل. لم تحتملني الجنّة الأولى فطُردتُ لأرمي فتنةً في الأرض وأدبّر في المخادع أحوال رعيتي.
قدرُ العارفين إلهةُ الليلَين. إلفة النوم واليقظة. أنا الجنين الشاعر. أهلكتُ نفسي فوجدتُـها. أعودُ من منفاي لأكون عروس الأيام السبعة وخراب الحياة المقبلة.
أنا اللبوءةُ المغوية أعودُ لأهتك الأسرى وأملك الأرض. أعودُ لأصحّح ضلوع آدم وأحرّر الرجال من حواءاتهم.
أنا ليليت العائدةُ من منفاها لأرثَ موتَ الأم التي أنجبتُـها.



-------------------------

* لا يسمح لأي كان أخذ هذه المواد دون ذكر كاتبتها جمانة حداد ومصدر النشر،

** عن موقع جمانة حداد
إثـنان
جمانة حداد


ضمّـني اليك
كي اذا خسرتُ شدّة قلبي تزوّدني شدة قلبكَ
كي اذا ذهبتْ جذوري عميقاً أكون في عهدة هاويتك
كي اذا اهدرتُ عمري ازداد بك اعماراً ولغات.
ضمّـني اليك
كي أصيرَ عشـبةً تؤرق الصخر
كي تصير صخرة ليّـنة في ظل عشبة
كي يولد نهرٌ بيني وبينك فتـفيض كل الأنهار
كي أترجّل من جبالي لألاقيك
كي أكتـشف كم أنك الصعود
كي تكتـشف كم أنّي الغرق
كي اذا سرتُ اليك أرفع جسراً بين ضوء وتهلكة.
ضمّـني اليك
كي تطلبني كتـفاحة تشتاق قطافها
كي أهرقك كتـفاحة بعد قطافها
كي أغمرك بما لا تستطيع
كي أصنع من أجلك ليلاً وغيمة فوق ليل
كي أنسـّيك أني شجرة لأغصانك
كي أنسـّيك أنك أغصان لشجرة
كي اذا غلبتـني الحياة أربح معك حياتي.
ضمّـني اليك
ثم اطلق سراح يديّ
كي كلما كدنا نصير واحداً
ظللنا اثـنين عاطلين عن القدر.
احتمال
لمسةٌ تكفي لتخون ثمرة ناضجة زوجها الغصن
خريفٌ يكفي لتـتـنبأ غيمةٌ بمصيرها
كنزةٌ من جمر
ليتدثّر البرد في موقد الشتاء
ضفّـةٌ بل ضفّتان
كي لا يهرب نهرٌ من سرير نومه
تـفاحةٌ أو فكرةُ تـفاحة
لتحتـفي الشجرة بشهوة أنوثتها
صخرةٌ وآهة صخرة
ليتعلّم النبع كيف يشقّ غده
قوسُ قزح وسرابُ ابتسامة
لتـتـفتٌح غابةٌ تحت المطر
نجومٌ ينفد صبرها
كي يعلن القمر بداية السهرة
ظلّ لبحيرة
كي يخمد العصفور شمس غربته
دمعة برقٍ ماجنة
كي تتكهرب نجمةٌ بذهب جسدها
عشبةٌ وهمسُ عشبة
ليخضرّ القمر
احتمال واحد يكفي لتتغيّر وظيفة القلب
ورجل واحدٌ
أقول ليلٌ واحد يكفي
لأكون امرأة.
سرير
جمانة حداد







أمشي اليكَ على خطى شجرة لألبّي وادياً الى غواية النزول وأكون سَـفَر الخطيئة. تحت برج التيه والدوار مضمّـخةً برغباتي أمشي لتكون ميناء لمنتصف الليل. لا تخفْ، سأصل عندما تهبط من سرير الرأس على زورق يديّ لنتكامل سفي دنس الماء وننـقذ الدهشة.
أمشي اليك كغيمة متلاقية فوق فراغ وقصيدة. سأصل لا تخفْ، كي تتساقط شمسكَ في العتمة وتربح طعم الكسل. واحدةً لا أحصى آتية لأكون قرصانكَ الحارس والسائس الفارس، لبوءةً تريد أن تُـفترس كنزاً يُـجمع ليُـنهب، صبيةً تهرب من سجن قميصها لتصير سجن السرير.
تأملات تراثية في التعابير
الجمالية لجسد المرأة
أ. د. علي أسعد وطفة


يتأصل الجمال في طبيعة الإنسان فالله قد خلق الانسان على صورته وهو جميل يحب الجمال. ولذا فالإنسان ميال بطبعه الى عشق الجمال نزاع الى استجوابه ومناشدته حيثما وجد في الطبيعة وفي الكلمة وفي الأشياء وفي الإنسان نفسه .
واذا كان الإنسان جميلا فان الطبيعة خصت المرأة بالجمال الذي يندر مثيله فـي الكون فجعلت منها آية من آياتها وسرا من اسرارها فإذ هي جمال يتفتق بالجمال ويفيض بالسحر ويعبق بالجاذبية وينضب بالمعاني الجميلة .

منذ بدء التكوين والرجل يقف مسحورا أمام جمال المرأة وفتنتها حيث وجد فـي سحرها وجمالها ينبوع الهامه فاذ به يستوحي جمالها في بناء جمال الاشياء التي تجسدت فـي الادب والفن والروائع والاحداث الجسام .

كان جمال جسد المرأة يلعب وما زال دور اساسيا في ايقاظ الرجل على معاني الجمال وصـوره جميع الحضارات الانسانية الاولى ومنه انتقل الفلاسفة والمفكرون والفنانون الى غيره من مظاهر الجمال في الطبيعة والنفوس والمنازل والابنية ( عبد اللطيف شراره : 72).
فالجمال والحب توأمان لا يقوم احدهما مـن غير الاخر وفي ذلك اشارة الى ما يفعله الجمـال فـي نفوس البشر والى مدى تأثيره في قلوبهم. وها هو افلاطون نفسه لا يميز في كتابه " المائدة " بين الحب والجمال إذ يقول " إن الحب هو التمتع بالجمال لان فكرة الجمال هي الحقيقة الساميه ( أوسفلد سفارتس : علم نفس الجنس, ص. 145) ).

وإذا كان الحب هو اساس كل تقدم انساني بما يوحيه من اندفاعات وتضحيات فإن الجمال هو معين الحب وملهمه. فعالم الحب هو عالم النفس البشرية في جملته ومن استطاع أن يتذوق جمالياته [...] كان حريٍا به أن يدرك اسرار النفس الانساني (شرارة : ص.11) ).

لقـد قـدر لشخصيات التاريخ العظيمة من شعراء وادباء وفنانين أن تدرك لمحات الجمال وأن تستشعر عظمته " فامتازوا بقدرتهم العجيبة على الحب وتفردوا بذلك اللهب الداخلي الذي جعلهم لا يملون الجهد من أجل غيرهم ومن اجل العطاء والابداع " (شراة ص .16) ).

وكان لجمال المرأة لدى كل شعب طراز يصفه شعراؤه ويتغنى به عشاقه ويرسمه مصوروه وينحت له التماثيل مثالوه وتجهد النساء في تحقيقه (شـرارة ص. 74 ) .
ففي اليونان القديمة كان مقياس الجمال الانثوي عند اليونان يتمثل فـي المرأة الممتلئة قليلا كما يلاحظ في التماثيل والرسوم اليونانية ( خماش : ص.29 ).

كان احساس العاشق بجمال عشيقته في الجاهلية يتحول على يد الحب الـى ضـرب مـن العبادة [...] وكـان العرب الجاهليون يرون في جمال المرأة محور احاديثهم واداة الوحي الكبرى لشعرائهم ( شرارة ).

لقـد وجد ديون Dion سنة 1977 أن جاذبية الوجه تعد نقطة الارتكاز الاولى للجاذبية, وأنها تساعد صاحبها أو المتعامل معه على إقامة علاقات اجتماعية اكثر استدامة ووفاقا, كما أن لذلك أثرا بينا في توجيه السلوك نحو مسالك لا تتسم بالضعف والعدوانية .

" وتبين الدراسات الجمالية الجارية بشكل عام أن الافراد الاكثر
جاذبية من ناحية الشكل يملكون في نظر من يتعاملون معهم خصائص ايجابية, بعكس الذين لا يملكون هذه الجاذبية فينظر اليهم على أنهم يحملون خصائص سلبية " (الخشت: ص 72 ).

وتتعـدد وجهات النظر في تحديد شواخص الجمال عند المرأة فهناك من ينظر الى الجمال الانثوي في رشاقة الجسم وانسيابه, بينما يركز آخرون على تناسق الوجه وبهائه, في حين يجمع البعض في نظريتهم بين اعتبار رشاقة الجسد وبهاء الوجه . وثمة رجال يفضلونها ممتلئة, وآخرون يرغبون فـي الرفيعة, وهناك من تعجبهم معتدلات الجسم, كما أن بعض الرجال يتوقون الى السمراء, وآخرون الى الشقراء, وطائفة يجبذون البيضاء .

فللجمال الجسـدي ألوان مختلفة وأنماط متعددة, وتؤكد احدث
الدراسات التي وقعت عليها أيدينا تنوعا كبيرا في نظرة الرجال الى الجوانب الجماليه للجسد الانثوي .

ويتجسد جمال المرأة الجاهلي في القصيدة اليتيمة التي تمثل إحدى اللوحات الرائعة لجمال المرأة في منظور الثقافة الجاهلية وهي من اقدم اللوحات الفنية إذ لم تكن اقدمها على الاطلاق. تقول القصيده:

بيضاء قد لبس الاديم اديم
الحسن فهو لجلدها جلـــد
ويزين فوديــها إذ حسرت
ضافــي الغدائر فاحم جعد
فالوجه مثل الصبح مبيـض
والشعر مثل الــليل مسود
ضدان لمـا استجمعا حسنا
والضد يظهر حسنه الضــد
وجبينها صلت وحاجبـــها
شخط المخط ازج ممــــتد
فكأنها وسنى إذ نظـــرت
أو مـدنف لما يفق بــعد
بفتور عين ما بـها رمـد
وبها تداوى الاعين الرمد
وتريك عرنينا به شمـــم
أقنى وخٍدا لونه الـورد
وتجيل مسواك الأراك علـى
رتل كأن رضـــابه الشهد
والجيد منها جيـد جؤزرة
تعطو إذا ما طالها المرد
وأمتد من اعضائها قصــب
فعم تلته مرافــــق درد
والمعصمان فما يرى لهما
من نعمة وبضــــاضة زند
ولها بنان لو اردت لــه
عقدا بكفك أمكن الــعقد
كأنماسقيت ترائبــــهـا
والنحر ماءالورد إذ تبدو
وبصدرها حقان خلتهــمـا
كافورتين علاهما نـــــد
والبطن مطوي كما طويــت
بيض الرياط يصونه الملد
وبخصرها هيف يزينـــــه
فإذا تنوء يكاد يتــقـد
والتفت فخذاها وفوقهمـا
كفل بجانب خصرها نهـــد
فتيامها مثنى اذ نهضــت
من ثقله وقعودها فـــرد
والساق خرعبة منــــعمة
عبلت فطوق الحجـل مـنسد
والكعب ادغم لا يبين لـه
حجم وليس لرأسه حـــــد
ومشت على قدمين خصرتـا
والينتا فتكامل الــعقد
ما عابها طول ولا قصر
في خلقها, فقوامها قصــد

يقـول محمد عثمان الخشت: " احتل جمال المرأة مكانة خاصة في الأدب العربي فطالما تحدث الشعراء والأدباء عن مفاتن المرأة وبهائها " ( الخشت: ص. 76 ) .

لقـد ربط العرب منذ وقت مبكر بين الجوانب الجماليه الجسدية في الانثى ومجالات الابداع في الادب, وقد بلغ ذلك التعبير حدا من الروعة لا يقل عـن التعبير الابداعي لحضارات أخرى لجأت الى اساليب متنوعة كالنحت والسيراميك في الحضارة اليونانية والرومانية, والرسم في الحضارة الرينساس والعصر الحـديث . فضلا عن أنها تتعادل في دقتها أحدث الابحاث المعاصرة في مقاييس الجمال الانثوي ( الخشت : ص. 76 ).

لقـد ابدع العرب واي ابداع في وصف جمال العيون اذ غالبا ما ينجذب شعراء العرب الى حوراء العينين: ( شدة البياض والسواد, ويقال الحور اسوداد المقلة كلها كعيون المها ( البقر الوحشي ). وفي ذلك قال جرير :

" إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا "

وهناك كثرة كاسرة من النصوص الأدبية النثرية الرائعة التي تصف جمال المرأة ومنها ما قاله ألأخوان عمرو وربيعة عندما سألهما ابوهما عن صفات أحب النساء اليهما فقال عمرو :
الهركولة.. اللفاء(1) .. الممكورة(2) .. الجيداء(3)... التي يشفي السقيم كلامها... ويبريء الوهيب الهامها, الفاترة الطرف (4) الفلة الكف.. العميمة الردف.
أما أخوه ربيعة فقال :
الفاتنة العينين.. والاسيلة الخدين (5)... والكاعب الثديين (6)... الرداح الوركين (7)... الشاكرة القليلة... المساعدة للحليل... الرخيمة الكلام (.8
لقـد أرسـل الحارث بـن عمرو ملك كندة امرأة يقال لها عصام الى
ابنة عـوف لكي تتعرف على اوصافها لما اخبره البعض بكمالها وجمالها وعندما عادت استنطقها بالقول المأثور: ما وراءك يا عصام " .
فقالت: " رايت وجها كالمرآة المصقولة... يزينها شعر حالك كأذناب الخيل, إن ارسلته خلته السلاسل, وان مشطته قلت: عناقيد جلاها الوابل, وحاجبين كانهما خظا بقلم أو سودا بحمم (1)... وبينهما أنف كحد السيف الصنيع... حفت به وجنتان (2) كالارجوان (3)في بياض كالجمان(4). شق فيه فم كالخاتم, لذيذ المبتسم, فيه ثنايا غر ( بيضاء ), ذوات أشر ( الأشر تباعد بين الأسنان ), تقلب فيه لسان بفصاحة وبيان, بعقل وافر وجواب حاضر, تلتقي فيه شفتان حمراوان تجلبان ريقا كالشهد اذ دلك .. وفي رقبة بيضاء ركبت كدمية.. وعضدان ممتلئان لحما, مكتنزان شحما, وذراعان ليس فيهما عظم يمس ولا عرق يجس.. نتأ في صدرها ثديان كرمانتين يخرقان عليها ثيابا.. تحت ذلك بطـن طوي كطي القباطى المدجنة (5).. كسي عكنا(6) كالقراطيس المدرجة, تحيط بتلك العكن بسرة(7) كمدهن (8) العاج المجلو.. خلف ذلك ظهر فيه كالجندول (9) ينتهي الى خصر, لولا رحمة الله لا نبتر...
لها كفل (10) يقعدها اذا نهضت, وينهضها اذا قعدت كأنه دعص(11) رمل تحمله فخذان لفٍـا كأنهما نضيـد الجمان (12). تحتهما ساقان خدلتان (13), كالبردتين وشيتا (14) بشعر أسود كأنه حلق الزرد (15).. ويحمل ذلك قدمان كحذو اللسان; فتبارك الله كيف تطيقان حمل ما فوقهما. وما أن سمع ملك كندة هذه الاوصاف, حتى أرسل من يخطبها له من أبيها وتزوج منها ( الخشت: ص82-83 ) .
وخلاصة القول أن الحب عند العرب كان ينبعث ويتحرك في النفس عن تأثير الحواس بجسد المرأة وإشعاعاته. وكان الجاهلي يعجب بتحركات المرأة ويلمس فيها الجمال وفي هذا يقول الشنفري :

ويعجبني أن لا سقوط خمارهـا
إذا ما مشت, ولا بذات تلـفٍت
كأن لها في الأرض نسيا تقصه
إذا ما مشت, وإن تكلمت تبلت


وهذا ما يقوله الأعشى في وصف مشيتها :

غراء فرعاء, مصقول عوارضها
تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوجل
كأن مشيتها من بيت جارتهـا
مٍر السحــــابة لا ريث ولا عجـــــل


ومن أجمل ما قيل في المرأة قول خالد صفوان في وصفه وجهه الى ابو العباس السفاح: " وحسبك من جمالها أن تكون فخمة من بعيد مليحة مـن قريب اعلاهـا قضيب واسفلها كتيب كأنها كانت في نعمة ثم اصابتها فاقة فأثر فيها الغنى وأدبها الفقر ( عن كتاب العقد الفريد: كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتها ) .


" وقـد ظلت هذه الصفات الجسمانية في المرأة مثال اعجاب العربي وموضوع غزله واهتمامه الى يومه هذا فلم يختلف بذوقه عن الجاهلي في شيء كثير وما زال تراثه القديم في هذه الناحية يعمل عمله في نفسه عن وعي منه وغير وعي " ( شرارة : ص. 78).


سئل اعـرابي عن النساء وكان ذا تجربة وعلم فقال: أفضل النساء اطولهن اذ قامت, واعظمهن إذ قعدت, وأصدقهن إذ قالت, والتي اذا غضبت حلمت, وإذا ضحكت ابتسمت, وإذا صنعت شيئا جودت, التي تطيع زوجها وتلزم بيتها العزيزه فـي قومها الذليلة في نفسها, الودود الولود وكل امرها محمود (شراره :ص.79).


قال عبد الملك لرجل من غطفان " صف لي أحسن النساء " قال " خذها يا أمير المؤمنين: ملساء القـدمين, ردحـاء الكعبين(1) مملوءة الساقين, جماء الركبتين (2) لفاء الفخذين, مقرمدة الرفغين(3), ناعمة الاليتين, بداء الوركين, مهضومة الخصرين , ملساء المتنين, فخمة الذراعين, منيفة المأكميتين (4), فعمة العضدين (5) فخمة الذراعين, رخصـة الكفين (6) ناهدة الثدين, حمراء الخدي, كحلاء العينين, زجاء الحاجبين(7), لمياء الشفتين (8), بلجاء الجبين(9), شـماء العــرنين (10) شنباء الثغر (11) حالكة الشعر(12)غيداء العنق (13) غيداء العينين (14) مكسرة البطن ناتئة الركب. فقال " ويحك وأنى توجد هذه " قال " تجدها في خالص العرب أو في خالص الفرس ( السناد : ص. 170) .


قال خالد بن صفوان لأبو العباس السفاح واصفا محاسن المرأه: " إن منهن يا أمير المؤمنين الطويلة الغيداء والبضة البيضاء والعنيقة الادماء والدقيقة السمراء والبربرية العجزاء ولو رأيت يا أمير المؤمنين الطويلة البيضاء والصفراء والعجزاء والسمراء واللعساء, والمولدات البصريات والكوفيات ذوات الالسن العذبة, والقدود المهفهفة والاوساط المخصرة والاصداغ المزرنفه والعيون المكحلة والثدي المحققه. (شراره:ص.107).

ومن بدائع وصف الحسناوات ما تسجله قصة الف ليلة وليله حيث جاء في وصف منار السنا :
" صاحبة وجه مليح وقد رجيح اسيلة الخد قائمة النهد دعجاء العينين ضخمة الساقين بيضاء الاسنان حلوة اللسان طريفة الشمائل كأنها غصن مائل بديعة الصفة حمراء الشفة بعيون كحال وشفايف رقاق على خدها الايمن شامة وعلى بطنها مـن تحت سـرتها علامة ووجهها منير كالقمر مستديرة وخصرها نحيل وردفها ثقيل وريقها يشفي العليل كأنه الكوثر والسلسبيل, وبين فخذيها تخت الخلاقة, وهي بنت الملك الاكبر ( عبدالله بوحديبه : " الاسلام والجنس ص.196) ).


نظر خالد بـن صفوان الى جماعة في المسجد في البصره فقال ما هذه الجماعه ? قالوا امرأة تدل على النساء. فأتاها فقال لها . ابغني امرأه قالت صفها لي. قال :
" اريدها بكرا كثيب, أو ثيب كبكر, حلوة من قريب فخمة من بعيد, كانت فـي نعمة, فأصابتها فاقـة, فمعها أدب النعمه, وذل الحاجة. فإذا اجتمعنا كنا أهل دنيا, واذا افترقنا كنا أهل آخرة. قالت المرأة : لقـد اصبتها لك. قال: وأين هي. قالت: في الرفيق الأعلى من الجنه
فاعمل لها. ( محمد عثمان الخشت : ص .87 )


واذا كان العرب قـد اجادوا في وصف محاسن المرأه وأسرار جمالها فأبدعوا فـي ذلك وفجروا عبقريتهم الشاعريه فان ملامح هذه الصورة الجماليه ما زالت راسخة في العمق الوجداني للإنسان العربي. يقول بوعلي ياسين: " نلاحظ أن المفهوم الجمالي لدينا نحن العرب قد تأثر بعلاقـة المرأة بالطبيعة والحضارة, فالرجل الاسمر الذي لوحته الشمس جميل مثلما هي جميلة المرأة ناصعة البياض التي لم تر الشمس وجهها. " ولا أقول أن المرأة العربية هـي التي اخترعت هذا الفهم الجمالي ولكنها فـي كـل الاحوال تتصرف بمقتضاه " ( بوعلي ياسين ص.112).

يقول نزار قباني في هذا الخصوص: " الانفعال بجمال المرأه كان
صحراويا بمعنى أن أمير الشعراء شوقي لم يستطع أن يتحرر وهو في باريس واسبانيا وجارون سيبني من رنين خلاخل البدويات ووسمهن وكحلهن وأوتاد خيامهن ( قباني : ص.22) .

بهذا يتبين لنا أن الادباء العرب القدامى وأيضا فقهاء اللغة وقـد نظروا الى جمال المرأة على اسس تكاملية بين جميع اعضاء الجسد ومكوناته. وهذا يظهر وجه التشابه بينهم وبين نظرة اليونان الى الجمال الانثوي, وإن كان كل منهم يلجأ الى شكل مختلف من اشكال التعبير الفني. فإذا كان العربي القديم يلجأ الى رسم لوحة شعرية بالكلمات للانثى الجميلة, فإن اليوناني القديم كان يلجأ الى فن النحت, فينحت تمثالا لـ (فينوس) يضع فيه اجمل وأروع ما رأته عيناه أو خطر بخياله مـن صفات الحسنوات .


تؤكـد أحـدث الدراسـات عـلى أن العـامل الجسـدي الشـكلي هو أكثر
التـوامل تـأثيرا في انجذاب الاطفال والفتيات بعضهم الى بعض فمن كان شكله جذابا منهم ذكر أو أنثى يحظى بقبول اكبر وحب أعظم. فقـد جاء في دراسة قام بها وجنز Wiggins سنة 1968م ودراسة اخرى قـامت بهـا سالي بك Sally Beck في جامعة بتلر بأمريكة سنة 1979: أن الفروق الفردية بين الرجال في اخيارهم للإناث تعكس خصائص شخصية الذكروخلقيته الاجتماعية والثقافية والحضارية, وهذا يتضح كالآتي: إن الرجال الـذين يختارون الانثى البدينة هـم عادة غـير مستقرين
عاطفيا, واهتماماتهم قليلة بالتحصيل الاكاديمي والامور الجمالية .

-------------------------

(1) الهركولة مـن النساء: العظيمة الوركين واللفاء: التي ضاق ملتقى فخديهـا لكثرة لحمهـا .
(2) الممكورة: ذات الساق الغليظة المستديرة الحسـناء.
(3) الجيداء: التـي طـال عنقها وحسن .
(4) الطرف : العين. ويقال: طرف فاتر : فيه ضعفت مستحسن.
(5) الردف : العجز ومؤخر كل شيء .
(6) (أسل )اسالة: ملس واستوى فهو اسيل . ويقال خد اسيل, وكف اسيلة الاصابع .
(7) (كـعبت) الفتـاة-كعوبـا: مهد ثديها, أي برز وارتفع, فهو كعـاب وكـاعب.
(8)الـرداح الـوركين : أي ضخمة تردف سمينة الاوراك .
(9) الرخيمة الكلام : التي لان كلامها ورق ولطف.

-------------------------------

(1) الحممـة: بـوزن رصية: ما أحرق من خشب ونحوه. والجمع بحذف الهاء ويقصـد كأنمـا سـودا بفحـم .
(2) الوجنـة مـا أرتفـع من الخدين
(3) الارجـوان: شـجر مـن الفصيلـة القرنية له زهر شديد الحمرة حسن المنظر وليسـت له رائحة .
(4) الجمان : الفضة .
(5) القباطىء جمع قبطية ثياب من كتان بيض رقاق كانت تنسج بمصر المدرجة والملفوف في الملامسة .
(6) عكنت : الجارية: صارت ذات عكن, وتعكن البطن: صار ذا عكن والعكنة : ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمنا.(7) البسرة: واحدة البسـر, وهو الغض من كل شيء .
(8) المدهن : آلة الدهن وقارورته.
(9) الجـدول : النهـر الصغـير .
(10) الكفـل : الـردف أي مؤخرة المرأة وعجيزتها .
(11) الدعص : الكثيب والمجتمع من الرمل المستدير .
(12) نضيـد: الجمان اللؤلؤ المنظوم الفضة المنضدية التي يكون بعضها فـوق بعـض .
(13) حدلتــا : مملؤتــان .
(14) وشــيئا : حليتــا وزينتا.
(15) الزرد : الدرع .

----------------

1- عبداللطيـف شرارة:" فلسفة الحب عنـد العرب ", مكتبة الحياة, بيروت, .1960
2- جـلال السـناد : "دراسة سوسيولوجية للامثال الشعبية في دير الزور " أطروحة ماجيستير , كلية الآداب جامعة دمشق , دمشق , .1988
3- بـوعـلي ياسين :" أزمة المرأة في المجتمع الذكوري العربي ", دار الحوار, اللاذقيه , .1992
4- نزار قباني :" عـن الشعر والحب " , بيروت , دار العلم للملايين بيروت , 1976 .
5- محمد عثمان الخشـت :" المرأه المثاليه في أعين الرجال ", مكتبة ابن سينا, القاهره , 1988 .
6- عبدالله بو حديبه : " الاسلام والجنس ", تعريب هالة العورى, مكتبة مدرولي , القاهره ,1987 .
7- سلوى خماش : " المرأه العربيه والمجتمع التقليدي " , دار الحقيقه بيروت ,.1981
8- أوسـفلد شـفارتس :" علـم النفس الجنسـي " , تعـريب شعبان بركات , المكتبه العصريه , صيدا , بيروت , 1972 .
9- نور الدين العتر: " ماذا عن المرأه ", دار الفكر , دمشق 1979 .
10- خـليل احمد خليل :" المرأه العربيه وقضايا التغيير: بحث اجتماعي في تاريخ القهر النسائي ", دار الطليعه , بيروت ,.1985
11- صـلاح الدين المنجد :" امثال المرأه عند العرب : ما قالته المرأه العربيـه ومـا قيـل فيهـا " , دار الكتـاب الجديد , بيروت , لبنان.1981



* أ.د.علي أسعد وطفة
كلية التربية - جامعة الكويت