المشاركات الشائعة

السبت، 18 ديسمبر 2010

فصل من رواية
"المفتاح"
للكاتب الياباني
جونيشيرو تانيزاكي
Junichiro Tanizaki
ترجمة خالد الجبيلي



هذه السنة، قررت أن أكتب بحرية مطلقة عن موضوع طالما ترددت في الكتابة عنه، موضوع لم أكن أجرؤ حتى على مجرد ذكره هنا. فقد كنت أحرص دائماً على أن لا أعلق بشيء على علاقتي الجنسية مع إيكوكو، لأنني أخشى أن تعثر على مذكراتي وتقرأها سراً فتشعر بالإساءة. ويمكنني أن أقول إنها تعرف مكانها جيداً. لكنني قررت ألا أعير هذا الأمر أي اهتمام بعد الآن. وبطبيعة الحال، فإن تربيتها المتزمتة بالطريقة التقليدية القديمة في كيوتو، غرست فيها قدراً كبيراً من المبادئ الأخلاقية التي أصبحت بالية وعفا عليها الزمن، لكنها لا تزال تتفاخر بأنها تتمسك بها. لذلك، لا أظن أنها ستحاول أن تقرأ مذكرات زوجها الخاصة. لكني لا أستبعد ذلك تماماً، وخاصة بعد أن بدأت مذكراتي، وللمرة الأولى، تركّز بصورة رئيسية على حياتنا الجنسية، فهل بوسعها أن تقاوم إغراء قراءتها؟ وخاصة أنها امرأة مولعة بطبيعتها باستخدام أساليب خفية ماكرة، ومغرمة بكتم الأسرار، وتتظاهر دائماً بالجهل وعدم المعرفة؛ والأسوأ من كلّ ذلك أنها تعتبر ذلك نوعاً من الحشمة الأنثوية. وعلى الرغم من وجود أماكن عديدة يمكنني أن أخبئ فيها مفتاح الدرج الذي أحتفظ فيه بمذكراتي، فإن امرأة مثلها تستطيع أن تنبش في جميع الأماكن، وتستطيع أن تحصل بسهولة على نسخة من المفتاح.
كنت قد قلت إنني قررت ألا أعير بالاً لهذا الأمر، لكنني ربما لم أعد أعير اهتماماً لذلك منذ فترة طويلة. وربما أصبحت أقبل، بل أتمنى، أن تقرأها خفية. إذن لماذا يتعين عليّ أن أقفل الدرج بالمفتاح وأن أخفيه في مكان سري؟ لعلي كنت أفعل ذلك لكي أرضي نقطة ضعفها في رغبتها في التجسس. أما إذا تركت المفتاح في مكان يمكنها أن تجده بسهولة، فقد تقول لنفسها: "لقد كُتبت هذه المذكرات من أجلي"، وربمالا تريد أن تصدق ما أقوله، بل ربما تقول: "لا بد أنه يخفي مذكراته الحقيقية في مكان آخر".
إيكوكو، زوجتي الحبيبة! لا أعرف إن كنت ستقرأين هذه المذكرات أم لا. لكن ما فائدة طرح هذا السؤال إن كنت ستجزمين بأنك لن تفعلي ذلك. لكنك إن فعلتِ، فأرجو أن تصدقي أن ما تقرأينه ليس من نسج الخيال، بل إن كلّ كلمة فيه صادقة وحقيقية. لن ألحّ أكثر– لأن كل ذلك يبدو مريباً، والمذكرات وحدها هي التي ستشهد على صدقه.
بالطبع لن أقيّد نفسي بالأمور التي تريد أن تسمعها، ويجب ألا أتحاشى الأشياء التي تعتبرها غير سارة، بل حتى جارحة. إن الشيء الذي جعلني أرغب في أن أكتب عن هذه الأمور هو تكتّمها الشديد و "طهارتها" و "أنوثتها"، وما يدعى بالحشمة التي تجعلها تخجل من مناقشة أيّ موضوع ذي حميمية معي، أو تجعلها لا تستمع إليّ عندما أحاول، في مناسبات نادرة، أن أحكي لها قصة غير محتشمة. فبعد مضي أكثر من عشرين سنة على زواجنا، وحتى بعد أن أنجبنا فتاة أصبحت الآن في سن الزواج،لا تزال ترفض أن تفعل شيئاً أكثر من ممارسة ذلك العمل بصمت. فهي لا تهمس كلمات رقيقة ونحن مستلقيان وذراع أحدنا متشابكة في ذراع الآخر - هل هذا زواج حقيقي؟ إني أكتب هذا بدافع من الإحباط، لعدم وجود فرصة تمكنني من أن أحدّثها فيها عن مشاكلنا الجنسية. من الآن وصاعداً، سواء قرأت هذه المذكرات أم لم تقرأها، وسأفترض بأنها ستقرأها، فإني سأحدثها عن هذا الأمر بطريقة غير مباشرة.
قبل كل شيء، أريد أن أقول إنني أحبّها، مع أنني قلت ذلك مراراً، في أحيان كثيرة، وهذا صحيح، أظن أنها تعرف ذلك. لكن قدرتي الجسدية لم تعد تجاري قدرتها. ففي هذه السنة سأبلغ الخامسة والخمسين من العمر (وستبلغ هي الرابعة والأربعين). إنه ليس ذلك العمر الهرم، لكنني بطريقة ما، بدأت أحسّ بالتعب بسهولة بعد أن أمارس الجنس معها. إن مرّة كلّ أسبوع، أو مرّة كلّ عشرة أيام – تناسبني. وأكثر ما تكرهه، صراحتي في هذا الموضوع؛ وفي الواقع، رغم ضعف قلبها وهشاشة صحتها، فهي لا تزال قوية ونشطة إلى درجة غير اعتيادية في السرير.
إن نشاطها هذا كثير عليّ، وقد جعلني في وضع شديد الإرباك. أعرف أنني لست ذلك الزوج الذي يلائمها تماماً، ومع ذلك – فإني أظن أنها على علاقة مع رجل آخر. (ستُصدم لدى سماعها هذا التلميح، وستتهمني بأني أنعتها بأنها امرأة غير محترمة. لكنني أقول "أظن" فقط). سيكون ذلك أكثر مما أحتمل. إن مجرد تصوّر ذلك يجعلني أشتعل غيرة. لكن حقاً، من أجل صحتها، ألا يتعين عليها أن تحاول كبح شهواتها المفرطة؟
إن أكثر ما يضايقني ويقلقني أن قدرتي آخذة في التقهقر والاضمحلال. ففي الآونة الأخيرة، أصبح الاتصال الجنسي يرهقني ويستنزف طاقتي. وخلال ما تبقى من اليوم، أشعر بوهن شديد إلى درجة أني لا أعود أقوى على التفكير... ومع ذلك، فإن سُئلت إن كنت لا أحب ممارسة الجنس، فإن ردي سيكون بالنفي على الفور، على العكس تماماً. ولا يكون ردّي عليها بالامتناع عن ممارسة ذلك على الإطلاق؛ لكن يجبألا أحفّز رغبتي بها بدافع من الإحساس بالواجب. في جميع الأحوال، فأنا أحبها كثيراً، وهنا يجب أن أكشف سراً قد تجده مقيتاً. يجب أن أخبرها بأنها تتمتع بموهبة طبيعية أكيدة، لا تدركها هي تماماً. لو كنت أفتقر إلى التجربة مع نساء أخريات عديدات، لما أدركت ذلك أيضاً. لكني تعودّت على مثل هذه اللذائذ منذ أيام شبابي، وأعرف أن موهبتها الجسدية لا تتوفر إلا لدى قلة قليلة من النساء. فلو كانت قد بيعت إلى إحدى دور البغاء الراقية في حي شيمابارا القديم، لأصبحت امرأة ذات شأن، امرأة مشهورة، ولتحلّق حولها جميع الشهوانيين في المدينة. (ربما ينبغي ألا أذكر ذلك، فقد يضعني هذا، على أقل تقدير، في وضع حرج. لكن هل ستشعر بالسعادة إن عرفت ذلك، أم أن ذلك سيجعلها تشعر بالخجل، بل ربما بالإهانة؟ ألا يحتمل أن تتظاهر بالغضب، بينما تتباهى في سريرتها؟) إن مجرد التفكير بموهبتها هذه يلهب غيرتي. فإذا عرف ذلك بالصدفة رجل آخر، وعرف أنني لست زوجاً تافهاً، فماذا يحدث؟
إن هذا النوع من الأفكار يزعجني، ويزيد إحساسي بالذنب تجاهها، إلى أن يصبح إحساسي بتأنيب الذات شيئاً لايطاق. إذن سأبذل ما بوسعي لكي أزداد توهجاً وتوقداً. سأطلب منها مثلاً أن تقبّل جفني، لأنني اُستثار في هذه المنطقة كثيراً. أما أنا، فإني أفعل كلّ شيء يبدو لي أنها تحبه – إذ أقبّلها تحت ذراعيها، أو أي مكان يستثيرها، ونتيجة ذلك، تتقد شهوتي وتزداد إثارتي لها. لكنها لا تستجيب لذلك. إنها تقاوم هذه "الألعاب غير الطبيعية" بعناد، وكأنه لا مكان لها في قاموس ممارسة الحب التقليدية. ومع أنني أحاول أن أشرح لها أنه لا يوجد ثمة عيب في هذا الضرب من المداعبة، فإنها تتمسك "بحشمتها الأنثوية" وترفض الإذعان.

غلاف رواية الوشم لنفس المؤلف

إنها تعرف إنني من ذلك النوع من الرجال الذين يفتنون بالقدمين، وبإني معجب كثيراً بقدميها الرشيقتين الجميلتين – لا يمكن لأحد أن يتخيّل أنهما قدما امرأة متوسطة العمر. ومع ذلك – أو لهذا السبب – فإنها نادراً ما تدعني أراهما. حتى في الصيف القائظ فهي لا تترك قدميها عاريتين. وإذا أردت أن أقبّل مشط قدمها، فإنها تقول: "يا له من شيء قذر!"أو"لا ينبغي لك أن تلمس مكاناً كهذا!" وفي كل مرة،أجد صعوبة في التعامل معها.
إن تدوين الأشياء التي أتذمر منها في بداية السنة الجديدة يبدو أمراً وضيعاً من جانبي، لكني أظن أن أفضل شيء أفعله هو أن أدوّن هذه الأشياء جميعها. إن ليلة غد ستكون "أول ليلة ميمونة". لا ريب أنها تريد أن نكون تقليديين ونمارس الأساليب القديمة المعهودة. ولا بد أنها ستصرّ على أن نحتفل بطقوس السنة الجديدة الرسمية المعتادة ذاتها.

كانون الثاني

حدث اليوم شيء غريب. فقد كنت بدأت منذ فترة من الوقت إهمال غرفة مكتب زوجي. لكنني دخلتها بعد ظهر اليوم لأنظفها بعد أن خرج ليتمشى. هناك على أرض الغرفة، وأمام رف الكتب حيث كنت قد وضعت مزهرية مليئة بأزهار النرجس البري، رأيت مفتاحاً. ربما كان ذلك محض صدفة، مع أنني لا أظن أن المفتاح قد وقع منه نتيجة الإهمال. إن هذا ليس من عادته. فطوال السنوات التي احتفظ فيها بمذكراته، لم يحدث ذلك على الإطلاق.
بالطبع أعرف أنه يدوّن مذكراته منذ فترة طويلة، وأنه يضعها في درج طاولة الكتابة ويقفل عليها بالمفتاح ويخبئ المفتاح في مكان ما بين الكتب أو تحت السجادة. هذا كلّ ما أعرفه، ولا أريد أن أعرف المزيد. لم أكن أحلم قط بأن ألمس مذكراته. إن ما يؤلمني هو أنه يشك فيّ كثيراً، ويبدو أنه لا يطمئن إلا إذا خبأها وأقفل عليها بالمفتاح وأخفى المفتاح.
إذن، لماذا يتعمد أن يسقط المفتاح في مكان كهذا؟ هل غيّر رأيه وأصبح يرغب في أن أقرأها؟ لعله يدرك أنني سأرفض إذا طلب مني ذلك مباشرة، لذلك فهو يقول لي: "يمكنك أن تقرأيها بمفردك – وها هو المفتاح". هل يعني ذلك أنه يظن أنني لم أعثر عليه؟ لا، بل ألا يقول: "من الآن وصاعداً، فإني أسمح لك بقراءتها، لكنني سأظل أدعيّ أنك لا تفعلين ذلك؟
حسناً، لا يهم. فمهما بلغت به الظنون، فلن أقرأها أبداً. ولا تنتابني أدنى رغبة في أن ألج في عوالمه النفسية، ولن أتجاوز الحدود التي رسمتها لنفسي. فأنا لا أحبّ أن يعرف الآخرون ماذا يدور في خلدي، ولا أريد أن أنقّب في داخل رؤوسهم لأعرف ما يدور فيها. وإن كان يريد أن يريني إياها فلن أصدق ما يقوله فيها، ولا أظن أن قراءتها ستكون أمراً جيداً بالنسبة لي.
يستطيع زوجي أن يكتب ويفكّر كما يحلو له، وسأفعل أنا الشيء ذاته. إذ سأبدأ في مطلع هذه السنة بتدوين مذكراتي أيضاً. إذ إن امرأة مثلي، امرأة لا تفتح قلبها للآخرين، بحاجة لأن تتحدّث مع نفسها على أقل تقدير. لكنني لن أرتكب خطأ بأن أجعله يشكّ في ما أكتبه. لذلك قرّرت أن أنتظر حتى يخرج من البيت لأبدأ الكتابة، وسأخفي الدفتر في مكان آمن لا يمكن أن يخطر على باله. في الواقع، إن أحد أسباب رغبتي في أن أدوّن مذكراتي أنه، رغم أنني أعرف مكانها، لن يخطر بباله أنه توجد لدي مذكرات. إن هذا يمنحني إحساساً لذيذاً بالتفوق.
احتفلنا ليلة أمس الأول بالسنة الجديدة على الطريقة القديمة - لكن كم من المخزي أن يدوّن المرء مثل هذه الأشياء! كان أبي يقول: "كوني صادقة مع ضميرك". سيغمره الحزن إن عرف إلى أي درجة أصبح عقلي مفسداً، لو عرف! ... كدأبه، يصل زوجي إلى ذروة النشوة؛ وكدأبه، يتركني دون أن أصل إلى النشوة التامة، ثم يغمرني شعور بالكآبة. كان يعتذر دائماً لأنه لم يتمكن من إيصالي إلى لحظة الرعشة، ومع ذلك، فهو يهاجمني ويتهمني بأنني امرأة باردة. إن ما يقصد بعبارة "باردة"، هو إنني امرأة "تقليدية" كثيراً، "مكبوتة" إلى درجة كبيرة - باختصار، مملّة إلى حد لا يطاق. وفي الوقت نفسه، فأنا "شبقة إلى درجةرائعة"، كما يقول، وهو شيء غير عادي، شيء يعني أنني لست سلبية ومتحفظة. لكنه يشتكي من أنني، منذ عشرين سنة، لا أريد أن أحيد عن الطريقة المعهودة نفسها، والوضعية المألوفة ذاتها. ومع ذلك لا يمكن أن يغيب عنه توددي له بصمت، فهو حسّاس لأدنى إشارة وتلميحة، ويفهم ما أرغب به على الفور. ربما كان ذلك لأنه يخشى طلباتي المتكررة كثيراً.
إنه يعتقد أنني امرأة جامدة ولا أتمتع بأدنى قدر من الرومانسية، فقد كان يقول: "إنك لا تحبينني بقدر نصف ما أحبّك".
"إنك تعتبرينني شيئاً ضرورياً لك، شخصاً ناقصاً. لو كنت تحبينني حقاً، لأظهرت مزيداً من العاطفة. يجب أن توافقي على كل ما أطلبه منك". وحسب قوله، فأنا المسؤولة عن عدم تمكنه من إشباعي وإيصالي إلى نقطة الذروة. فلو حاولت إثارته قليلاً لتحسن أداؤه. ويقول إنني لا أبذل أدنى جهد للتعاون معه وأن كلّ ما أفعله – امرأة نهمة مثلي - هو أنني أجلس بهدوء وأنتظره حتى يتودد إليّ ويتقرب مني. إنه يسميني "أنثى حقودة ذات دم بارد".
لا أظن أنه مخطئ تماماً في تفكيره هذا. لكن والديّ ربياني وغرسا فيّ أفكاراً بأن المرأة يجب أن تكون هادئة ورزينة، ويجب ألا تكون هي البادئة نحو الرجل. إني امرأة لا أفتقر إلى عاطفة ملتهبة؛ ففي امرأة ذات مزاج مثل مزاجي، تقبع العاطفة في أعماقي، في مكان سحيق يجب استشكافه وتفجيره. لكنني ما إن أحاول إرغامها على الخروج إلى السطح، حتى تبدأ تتلاشى وتذوي. يبدو أن زوجي لا يفهم أن اللهب في داخلي باهت وسري، وليس من ذلك النوع الذي يندلع متوهجاً.
بدأت أفكّر بأن زواجنا كان خطأ ذريعاً. لا بد أن هناك شريكاً أفضل لي، وله أيضاً. فأذواقنا الجنسية متنافرة. لقد تزوّجته لأن والديّ كان يريدان ذلك، وطوال تلك السنوات كان يخيّل إليّ أن الزواج لا بد أن يكون هكذا. أما الآن، فقد بدأت أشعر بأنني قبلت رجلاً لا يناسبني على الإطلاق. بالطبع، كان عليّ أن أعيش معه، لأنه زوجي قانوناً. لكن في اللحظة التي تقع فيها عيناي عليه، أشعر بالغثيان. نعم، هذا الشعور ليس جديداً، فقد انتابني الشعور ذاته في الليلة الأولى من زواجنا، في ليلة شهر العسل منذ فترة طويلة، عندما نمت معه أول مرة. لا أزال أذكر كيف أنني أجفلت عندما رأيت وجهه بعد أن خلع نظارته ذات العدسات السميكة. فالذين يضعون نظارات يبدون دائماً غريبين بعض الشيء عندما يخلعونها. ففجأة بدا وجه زوجي شاحباً، مثل وجه رجل ميت. ثم انحنى واقترب مني كثيراً، فأحسست بعينيه تخترقاني. لم أتمالك نفسي من عدم التحديق فيه أيضاً. كانت عيناي تطرفان، وما إنرأيت بشرته الشمعية الزلقة، حتى أجفلت مرة أخرى. ومع أنني لم أكن قد لاحظتها أثناء النهار، فقد رأيت لحية خفيفة نمت فيها شعرات قليلة تحت أنفه وحول شفتيه – إنه يميل لأن يكون مشعراً – وهذا ما جعلني أشعر بالغثيان أيضا على نحو غامض.
ربما كان ذلك لأنني لم أكن قد رأيت وجه رجل من هذه المسافة القريبة جداً، لكنني حتى الآن، لا أستطيع أن أنظر إليه بتلك الطريقة طويلاً دون أن يعتريني ذلك الشعور بالتقزز. ولكي لا أراه، فإني أطفئ المصباح بجانب السرير، لكنه في تلك اللحظة بالذات، كان يريد المصباح مناراً، لكي يتمكن من التحديق في جسدي، والتمعن فيه. (أحاول أن أرفض طلبه، لكنه يصرّ على أن أدعه ينظر إلى قدميّ بشكل خاص) وبما أنني لم أعرف رجلاً آخر بشكل حميمي– فإني أتساءل إن كانت لديهم جميعهم مثل هذه العادات المقرفة. هل هذه المداعبات الدبقة، المقرفة، الفظة، هي كل ما تتوقعينه من الرجال جميعهم؟
7 كانون الثاني
اليوم، جاء كيمورا لزيارتنا بمناسبة السنة الجديدة. كنت قد بدأت قراءة "محراب" لفولكنر، وعدت إلى غرفة مكتبي بعد أن تبادلنا التحية. أمضى فترة من الوقت وهو يتحدث مع زوجتي ومع توشيكو في غرفة الجلوس، وفي الساعة الثالثة تقريباً، اصطحبهما إلى السينما، وعادوا جميعهم الساعة السادسة، ومكث لتناول العشاء، ثم غادر بعد أن تجاذبوا أطراف الحديث حتى قرابة الساعة التاسعة.
أثناء الطعام، تناولنا جميعنا قليلاً من البراندي، ماعدا توشيكو. وأصبح يبدو لي أن إيكوكو قد بدأت تشرب كمية أكبر قليلاً في هذه الأيام. كنت أشجعها على ذلك. في البداية كانت تتذوقه، وإذا ألححت عليها، كانت تشرب كمية لا بأس بها. صحيح أنها كانت تشعر بتأثيراته اللاحقة، لكنها لم تكن تُظهر مشاعرها أمام الآخرين. إنها قادرة على كبت مشاعرها وردود أفعالها إلى درجة أن الناس لا يدركون في معظم الأحيان الكمية التي شربتها. هذه الليلة، قدم لها كيمورا عدة كؤوس مترعة من شراب الشيري. بدأ لونها يزداد شحوباً، لكن لم يبد عليها أنها ثملت، رغم توّرد وجهينا، أنا وكيمورا. وفي الواقع، لم يكن باستطاعته هو وإيكوكو أن يحتسيا قدراً كبيراً من الشراب. لكن ألم تكن هذه الليلة هي المرة الأولى التي تدع فيها رجلاً آخر يقنعها بأن تشرب؟ كان قد قدم لتوشيكو كأساً فرفضته وقالت: "أعطه إلى ماما".
منذ فترة بدأت أشعر أن توشيكو تحتقر كيمورا، لأنها تظن أنه يبدي اهتماماً كبيراً بأمّها؟ وقد خطر لي ذلك أيضاً، لكني قلت في نفسي إن سبب ذلك هو شعوري بالغيرة، وحاولت أن أبعد الفكرة عن رأسي. ربما كنت محقاً في ذلك. فمع أن زوجتي كانت تعامل الزوار ببرود عادة، وخاصة الرجال، كانت تعامل كيمورا بوّد شديد. ومع أن أحداً منا لم يذكر ذلك، فقد كان يشبه ممثلاً سينمائياً أمريكياً – الممثل الأثير لديها. (لاحظت أنها تحرص على مشاهدة أفلامه جميعها).
بالطبع، كنت قد طلبت من كيمورا أن يزورنا غالباً، لأني أعتبره زوجاً محتملاً لتوشيكو. وقد طلبت من زوجتي مراقبة كيف ينسجم أحدهما مع الآخر. لكن يبدو أن توشيكو لم تكن تبدي أي اهتمام به، وكانت تبذل ما بوسعها لتحاشي البقاء معه بمفردها عندما يأتي لرؤيتها. وحتى عندما كانا يذهبان إلى السينما، كانت تطلب من أمّها أن تصطحبهما.
"إنك تفسدين كلّ شيء بمرافقتهما طوال الوقت"، قلت لإيكوكو ذات مرة، "دعيهما يذهبان وحدهما". لكنها لم توافق على ما قلته، وقالت إن مسؤوليتها كأمّ تحتم عليها أن ترافقهما. وعندما أجبتها بأن أسلوب تفكيرها قد أصبح بالياً، وأنها يجب أن تثق بهما، اعترفت بأنني محق - لكن توشيكو كانت تريدها أن ترافقهما. بفرض أنها كانت تفعل ذلك، ألم يكن ذلك لأنها تعرف أن أمّها تحبّه؟ بطريقة ما، أشعر أنه يوجد اتفاق ضمني بينهما. ومع أن إيكوكو قد لا تدرك ذلك – ربما كانت تظن أنها تتصرف كمرافقة لهما – أظن أنها ترى كيمورا جذاباً للغاية.
8 كانون الثاني
ليلة البارحة، أحسست بأني سكرت بعض الشيء، لكن زوجي كان في حالة أسوأ مني. وأخذ يلّح عليّ بأن أقبّل عينيه، وهو شيء لم يكن يلحّ عليه بهذا الشكل من قبل. كنت قد احتسيت كمية من البراندي جعلتني أرضى بأن أفعل ذلك. رحت أنظر إلى ذلك الشيء الذي لم أكن أقوى على تحمّله - وجهه الشاحب الكئيب الذي يخلو من الحياة بعد أن يخلع نظارته تلك. وعندما أقبّله، كنت أغمض عيني، لكنني فتحتهما ليلة البارحة قبل أن أنتهي من ذلك، فلاح أمامي جلده الشمعي مثل صورة مجسمة على شاشة عريضة. أجفلت. كسا وجهي شحوب. لكن لحسن الحظ، أعاد نظارته بسرعة، ليتمعن في جسدي كدأبه. لم أفه بكلمة واحدة، أطفأت المصباح على المنضدة بجانب السرير. مدّ يده يبحث عن المفتاح، لكني أبعدت المصباح عنه."انتظري دقيقة!" قال متوسلاً: "دعيني ألقي نظرة أخرى. أرجوك..." وأخذ يتلمس في الظلام، لكنه لم يجد المصباح، واستسلم أخيراً...وأعقب ذلك عناق طويل على غير المعتاد.
إني أبغض زوجي كثيراً، وأحبه بقوة أيضاً. ومهما بلغت درجة اشمئزازي منه، فلن أسلّم نفسي إلى رجل آخر. إذ لا يمكنني أن أتخلى عن مبادئي بالصواب والخطأ. ورغم أنني فقدت صوابي بسبب أسلوبه الكريه وغير الصحي في المضاجعة، فإني أرى أنه لا يزال مفتوناً بي، وأشعر بأنني يجب أن أقابل حبّه بشيء من الحبّ.
كم كنت أتمنى أن يحتفظ بحيويته السابقة... لماذا ذوت؟ إنه يقول إن ذلك كله بسبي: فأنا امرأة متطلبة جداً. وإنه يقول إن النساء يستطعن تحمّل ذلك، أما الرجال الذين يعملون بفكرهم وعقلهم فلا يقدرون: إذ سرعان ما يظهر عليهم ذلك النوع من الإفراط. إني أشعر بالحرج من هذا الحديث، لكن يجب أن يعرف أنني لست المسؤولة عن احتياجاتي الجسدية. ولو كان يحبّني حقاً، لتعلّم كيف يشبع رغباتي. ومع ذلك، أرجو أن يتذكّر أنني لا أحتمل عاداته المقززة تلك. فبالإضافة إلى أنها لا تثيرني، فهي تفسد مزاجي. فمن طبعي أن أتمسك بالعادات القديمة إلى الأبد، وأرغب في ممارسة تلك العملية بطريقة عمياء، وبصمت، وأنا أغوص تحت لحاف سميك في العتمة، في غرفة نوم منعزلة. إنه لمن سوء الحظ الفظيع أن تتعارض أذواق الزوجين حول هذا الأمر بهذا الشكل المرير والمؤلم. ألا توجد وسيلة يمكننا فيها أن نتوصل إلى تفاهم؟
13 كانون الثاني

في حوالي الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر اليوم، جاء كيمورا لزيارتنا وجلب لنا قليلاً من قنفذ البحر المجفف الذي أرسله له والداه من ناغازاكي. وبعد أن تبادل أطراف الحديث مع توشيكو وإيكوكو لمدة تقارب الساعة، نهض لكي يغادر. في تلك اللحظة نزلت من غرفة مكتبي وطلبت منه أن يمكث ويتناول معنا العشاء. قبل الدعوة في الحال، وقال إنه يسعده ذلك، وجلس بارتياح. عدت إلى غرفة مكتبي في الطابق العلوي، وذهبت توشيكو لتعد الطعام. وبقيت زوجتي معه في غرفة الجلوس.
لم يكن لدينا شيئاً خاصاً نقدمه له سوى قنفذ البحر الذي أحضره وقليل من السوشي المصنوع من سمك الشبوط الذي اشترته إيكوكو البارحة من سوق نيشيكي. وبدأنا نلتهم هذه الأطعمة الشهية، ونحتسي معها البراندي. كانت إيكوكو تحب الأطعمة المالحة، وخاصة السوشي بسمك الشبوط. أما أنا فلم أكن أحبها، ولا توشيكو. حتى كيمورا، الذي يحبّ هذه الأشياء، وجد أنها قوية جداً.
لم يكن كيمورا قد أحضر لنا هدية قبل اليوم؛ وبدا أنه كان ينتظر أن ندعوه إلى العشاء. تساءلت إلام يهدف. أيّ المرأتين تجذبه، إيكوكو أم توشيكو؟ لو كنت في مكانه، وكان عليّ أن أختار أيهما أكثر جاذبية، لاخترت الأمّ بالرغم من عمرها. لكني لا أعرف ماذا يدور في خلده. ربما كان هدفه الحقيقي أن يفوز بتوشيكو، لكن بما أنها لم تكن تبدي اهتماماً به، فربما كان يحاول أن يحسنّ من فرصه من خلال تملق إيكوكو ...
لكن ما الذي أسعى إليه؟ لماذا طلبت من كيمورا أن يمكث لتناول العشاء مرة أخرى هذا المساء؟ يجب أن أعترف بأن موقفي غريب بعض الشيء. فمنذ قرابة أسبوع، في السابع من الشهر، انتابني شعور ضعيف - ربما لم يكن ضعيفاً جداً - بالغيرة منه. (في الواقع، أظن أن هذا الشعور قد بدأ ينتابني منذ أسابيع عديدة، قبل نهاية السنة). لكن ألم أكن أجد متعة بذلك في سريرتي؟ كانت هذه الأحاسيس تثيرني جنسياً؛ وبطريقة ما، كانت ضرورية وممتعة بالنسبة لي. في تلك الليلة، وبدافع من هذه الغيرة، تمكنت من إشباع رغبة إيكوكو. لقد بدأت أدرك أن كيمورا أصبح شيئاً هاماً في حياتنا الجنسية. لكنني أريد أن أحذّرها، مع أنني لست بحاجة لأن أقول هذا، بأنها يجب ألا تمضي شأواً بعيداً معه. أريدها أن تثير فيّ غيرة جنونية. لا مانع إن هي جعلتني أشكّ بأنها قد مضت شأواً بعيداً معه، لا بل أريدها أن تفعل تلك.
ومع ذلك، يجب أن تدرك أن ما أطلبه منها – مع أنه يبدو أمراً صعباً وشنيعاً – هو من أجل سعادتها.
17كانون الثاني
لم يعد كيمورا لزيارتنا، لكننا أصبحنا، أنا وإيكوكو، نحتسي البراندي مساء كلّ يوم. وعندما كنت أحثّها على ذلك، كانت تشرب كمية تفاجئني. كنت أحبّ أن أراقبها وهي تبذل ما بوسعها لأن تظل صاحية. كانت تبدو باردة وشاحبة؛ كان ثمة شيء فيها يغريني إلى درجة لا يمكن وصفها في مثل هذه الأوقات.
بالطبع كنت أهدف لأن أجعلها تسكر ثم أضاجعها؛ لكن لماذا لا تستلم لي برقة؟ إنها تزداد انحرافاً، ولا تدعني ألمس قدميها. أما ما تريده هي نفسها، فإنها تنتزعه انتزاعاً.
20كانون الثاني
ألمّ برأسي وجع شديد طوال اليوم. لا أظن أن سبب هذا لأنني شربت ليلة البارحة، مع أنه يخيّل إليّ أنني شربت كثيراً.
يبدو أن السيد كيمورا يشعر بالقلق لأني بدأت أشرب أكثر من المعتاد. إنه لا يريد أن يراني أتناول أكثر من كأسين من البراندي. فقد كان يسألني: "ألا تظنين أنك تناولت ما يكفي؟" في محاولة لثنيي عن الشراب. لكن زوجي لم يكن يكفّ عن تقديم كأس تلو الأخرى لي. يبدو أنه يعرف نقطة ضعفي تجاهه، ويريد أن يقدم لي كلّ ما أرغب به. لكني أكون قد وصلت إلى الحد. حتى الآن، استطعت أن أشرب دون أن يشعر أحد كم سكرت؛ لكني أعاني من التأثيرات اللاحقة. يجب أن أكون أكثر حرصاً وحذراً.
28كانون الثاني
هذه الليلة، غابت إيكوكو عن الوعي. كنا متحلقين حول مائدة العشاء مع كيمورا، عندما نهضت فجأة عن المائدة وغادرت الغرفة. لم تعد، فسأل كيمورا إن كانت مريضة. وبما أنني أعرف أنها تذهب أحياناً إلى دورة المياه بعد أن نحتسي كمية كبيرة من الشراب، فقد قلت له إنها ستعود بعد قليل. لكنها تأخرت كثيراً إلى حد أنه بدا قلقاً، ونهض ليبحث عنها.
بعد لحظات، نادى توشيكو من المدخل، وطلب منها أن تخرج من غرفتها، (مرة أخرى، عندما أنهت عشاءها هذه الليلة هرعت إلى غرفتها في الحال) وقال لها: "أخشى أن ثمة شيئاً على غير ما يرام" وأضاف، "لم أجد أمّك في أي مكان".
لكن توشيكو وجدتها – وجدتها مستلقية في حوض الحمام الخشبي العميق، مبللة كلها. كانت تتمسك بكلتا يديها بحافة الحوض، ورأسها ملقى فوق يديها، عيناها مغمضتان. وحتى عندما حاولت توشيكو إيقاظها، لم تتحرك.
هرع كيمورا لإخباري بذلك. ذهبت لأرى ما خطبها. كان أول شيء فعلته أنني فحصت نبضها: كان ضعيفاً، وقد وصل إلى أربعين نبضة في الدقيقة. خلعت ثيابي، ودخلت إلى الحوض بنفسي. رفعتها، ثم حملتها وأخذتها إلى غرفة الملابس المجاورة، ومددتها على الأرض. أحضرت توشيكو منشفة حمّام كبيرة وغطتها بها، وقالت: "سأرتب السرير". كان كيمورا مرتبكاً ولا يعرف ماذا يفعل؛ ظل متململاً، ولم يكف عن الدخول والخروج من غرفة الملابس. وعندما طلبت منه أن يمدّ لي يد المساعدة، شعر بالارتياح.
قلت: "ستبرد إن لم نجفّفها بسرعة"، ثم أضفت، "هل يمكنك أن تساعدني؟"جفّفناها بمناشف جديدة. (لم أنس أن "أستفيد" من مساعدة كيمورا الذي جفف النصف الأعلى من جسدها، وجففت أنا الجزء الأسفل. حرصت على أن أجفف ما بين أصابع قدميها جيداً، وطلبت من كيمورا أن يفعل الشيء ذاته بين أصابعها. وكنت أراقبه بدقة طوال الوقت).
جلبت توشيكو رداء نوم، لكنها عندما رأت كيمورا يساعدني، غادرت في الحال "لتحضر قنينة ماء ساخنة". ألبسنا إيكوكو رداء نومها وحملناها إلى غرفة النوم.
"قد تكون أصيبت بفقر دم دماغي"، قال كيمورا، "ربما كان من الأفضل ألا نعطيها قنينة الماء الساخنة". ناقشنا ثلاثتنا إن كان علينا أن نستدعي الطبيب أم لا. رغبت في أن أطلب الدكتور كوداما، مع أنني لم أشأ أن يرى زوجتي وهي في مثل هذه الحالة المزرية. لكن بما أن نبضها كان ضعيفاً، طلبت منه أخيراً أن يأتي ليراها.
أكّد الدكتور كوداما أنها مصابة بفقر دم دماغي، لكنه أضاف: "لا يوجد داع للقلق". ثم أعطاها حقنة فيتا كافور. عندما غادر، كانت الساعة الثانية صباحاً.

ليست هناك تعليقات: