المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 28 ديسمبر 2010

روضة المحبين ونزهة المشتاقين
ابن قيم الجوزية

الباب الرابع في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات الملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب
وهذا باب شريف من أشرف أبواب الكتاب وقبل تقريره لا بد من بيان مقدمة وهي أن الحركات ثلاث حركة إرادية وحركة طبيعية وحركة قسرية وبيان الحصر أن مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك أو من غيره فإن كان من المتحرك فإما أن يقارنها شعوره وعلمه بها أولا فإن قارنها الشعور والعلم فهي الإرادية وإن لم يقارنها الشعور والعلم فهي الطبيعية وإن كانت من غيره فهي القسرية وإن شئت أن تقول المتحرك إما أن يتحرك بإرادته أو لا فإن تحرك بإرادته فحركته إرادية وإن تحرك بغير إرادته فإما أن تكون حركته إلى نحو مركزه أولا فإن تحرك إلى جهة مركزه فحركته طبيعية وإن تحرك إلى غير جهة مركزه فحركته قسرية إذا ثبت هذا فالحركة الإرادية تابعة لإرادة المتحرك والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره ولا بد أن ينتهي المراد لغيره إلى مراد لنفسه دفعا للدور والتسلسل الإرادة إما أن تكون لجلب منفعة ولذة إما للمتحرك وإما لغيره أو دفع ألم ومضرة إما عن المتحرك أو عن غيره والعاقل لا يجلب لغيره منفعة ولا يدفع عنه مضرة إلا لما له في ذلك من اللذة ودفع الألم فصارت حركته الإرادية تابعة لمحبته بل هذا حكم كل حي متحرك وأما الحركة الطبيعية فهي حركة الشيء إلى مستقره ومركزه وتلك تابعة للحركة التي اقتضت خروجه عن مركزه وهي القسرية التي إنما تكون بقسر قاسر أخرجه عن مركزه إما باختياره كحركة الحجر إلى اسفل إذا رمى به إلى جهة فوق وإما بغير اختيار محركه كتحريك الرياح للأجسام إلى جهة مهابها وهذه الحركة تابعة للقاسر وحركة القاسر ليست منه بل مبدؤها من غيره فإن الملائكة موكلة بالعالم العلوي والسفلي تدبره بأمر الله عز و جل كما قال الله تعالى فالمدبرات أمرا وقال فالمقسمات أمر وقال تعالى والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا وقال والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا وقد وكل الله سبحانه بالأفلاك والشمس والقمر ملائكة تحركها ووكل بالرياح ملائكة تصرفها بأمره وهم خزنتها قال الله تعالى وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية وقال غير واحد من السلف عتت على الخزان فلم يقدروا على ضبطها ذكره البخاري في صحيحه ووكل بالقطر ملائكة وبالسحاب ملائكة تسوقه إلى حيث أمرت به وقد ثيت في الصحيح عن النبي أنه قال بينا رجل بفلاة من الأرض إذ سمع صوتا في سحابة يقول اسق حديقة فلان فتتبع السحابة حتى انتهت إلى حديقة فأفرغت ماءها فيها فنظر فإذا رجل في الحديقة يحول الماء بمسحاة فقال له ما اسمك يا عبدالله فقال فلان الإسم الذي سمعه في السحابة فقال إني سمعت قائلا يقول في هذه السحابة اسق حديقة فلان فما تصنع في هذه الحديقة فقال إنى أنظر ما يخرج منها فأجعله ثلاثة أثلاث ثلث أتصدق به وثلث انفقه على عيالي وثلث أرده فيها ووكل الله سبحانه بالجبال ملائكة وثبت عن النبي أنه جاءه ملك الجبال يسلم عليه ويستأذنه في هلاك قومه إن أحب فقال بل أستأني لهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا ووكل بالرحم ملكا يقول يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة يا رب ذكر أم أنثى فما الرزق فم الأجل وشقي أم سعيد ووكل بكل عبد أربعة من الملائكة في هذه الدنيا حافظان عن يمينه وعن شماله يكتبان أعماله ومعقبات من بين يديه ومن خلفه أقلهم اثنان يحفظونه من أمر الله ووكل بالموت ملائكة ووكل بمساءلة الموتى ملائكة في القبور ووكل بالرحمة ملائكة وبالعذاب ملائكة وبالمؤمن ملائكة يثبتونه ويؤزونه إلى الطاعات أزا ووكل بالنار ملائكة يبنونها ويوقدونها ويصنعون أغلالها وسلاسلها ويقومون بإمرها ووكل بالجنة ملائكة يبنونها ويفرشونها ويصنعون أرائكها وسررها وصحافها ونمارقها وزرابيها فأمر العالم العلوي والسفلي والجنة والنار بتدبير الملائكة بإذن ربهم تبارك وتعالى وأمره لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون و لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فأخبر أنهم لا يعصونه في أمره وأنهم قادرون على تنفيذ أوامره ليس بهم عجز عنها بخلاف من يترك ما أمر به عجزا فلا يعصى الله ما أمره وإن لم يفعل ما أمره به وكذلك البحار قد وكلت بها ملائكة تسجرها وتمنعها أن تفيض على الأرض فتغرق أهلها وكذلك أعمال بني آدم خيرها وشرها قد وكلت بها ملائكة تحصيها وتحفظها وتكتبها ولهذا كان الإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الذي لا يتم إلا به وهي خمس الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
وإذا عرف ذلك عرف أن كل حركة في العالم فسببها الملائكة وحركتهم طاعة الله بأمره وإرادته فيرجع الأمر كله إلى تنفيذ مراد الرب تعالى شرعا وقدرا والملائكة هم المنفذون ذلك بأمره ولذلك سموا ملائكة من الألوكة وهي الرسالة فهم رسل الله في تنفيذ أوامره والمقصود أن حركات الأفلاك وما حوته تابعة للحركة الإرادية المستلزمة للمحبة فالمحبة والإرادة أصل كل فعل ومبداه فلا يكون الفعل إلا عن محبة وإرادة حتى دفعه للأمور التي يبغضها ويكرهها فإنما يدفعها بإرادته ومحبته لأضدادها واللذة التي يجدها بالدفع كما يقال شفى غيظه وشفى صدره والشفاء والعافية يكون للمحبوب وإن كان كريها مثل شرب الدواء الذي يدفع به ألم المرض فإنه وإن كان مكروها من وجه فهو محبوب لما فيه من زوال المكروه وحصول المحبوب وكذلك فعل الأشياء المخالفة للهوى فإنها وإن كانت مكروهة فإنما تفعل لمحبة وإرادة وإن لم تكن محبوبة لنفسها فإنها مستلزمة للمحبوب لنفسه فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة ولذلك كانت المحبة والإرادة أصلا للبغض والكراهة فإن البغيض المكروه ينافي وجود المحبوب والفعل إما أن يتناول وجود المحبوب أو دفع المكروه المستلزم لوجود المحبوب فعاد الفعل كله إلى وجود المحبوب
والحركة الاختيارية أصلها الإرادة والقسرية والطبيعية تابعتان لها فعاد الأمر إلى الحركة الإرادية فجميع حركات العالم العلوي والسفلي تابعة للإرادة والمحبة وبها تحرك العالم ولأجلها فهي العلة الفاعلية والغائية بل هي التي بها ولأجلها وجد العالم فما تحرك في العالم العلوي والسفلي حركة إلا والإرادة والمحبة سببها وغايتها بل حقيقة المحبة حركة نفس المحب إلى محبوبه فالمحبة حركة بلا سكون وكمال المحبة هو العبودية والذل والخضوع والطاعة للمحبوب وهو الحق الذي به وله خلقت السموات والأرض والدنيا والآخرة قال تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وقال الله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا وقال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا والحق الذي خلق به ولأجله الخلق هو عبادة الله وحده التي هي كمال محبته والخضوع والذل له ولوازم عبوديته من الأمر والنهى والثواب والعقاب ولأجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب وخلق الجنة والنار والسموات والأرض إنما قامت بالعدل الذي هو صراط الله الذي هو عليه وهو أحب الأشياء إلى الله تعالى قال الله تعالى حاكيا عن نبيه شعيب عليه السلام إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فهو على صراط مستقيم في شرعه وقدره وهو العدل الذي به ظهر الخلق والأمر والثواب والعقاب وهو الحق الذي به وله خلقت السموات والأرض وما بينهما ولهذا قال المؤمنون في عبادتهم ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فنزهوا ربهم سبحانه أن يكون خلق السموات عبثا لغير حكمة ولا غاية محمودة وهو سبحانه يحمد لهذه الغايات المحمودة كما يحمد لذاته وأوصافه فالغايات المحمودة في أفعاله هي الحكمة التي يحبها ويرضاها وخلق ما يكره لاستلزامه ما يحبه وترتب المحبوب له عليه ولذلك يترك سبحانه فعل بعض ما يحبه لما يترتب عليه من فوات محبوب له أعظم منه أو حصول مكروه أكره إليه من ذلك المحبوب وهذا كما ثبط قلوب أعدائه عن الأيمان به وطاعته لأنه يكره طاعاتهم ويفوت بها ما هو أحب إليه منها من جهادهم وما يترتب عليه من الموالاة فيه والمعاداة وبذل أوليائه نفوسهم فيه وإيثار محبته ورضاه على نفوسهم ولأجل هذا حلق الموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها قال تعالى الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقال إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا
وقال تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء لبلوكم أيكم أحسن عملا فأخبر سبحانه عن خلق العالم والموت والحياة وتزيين الأرض بما عليها أنه للابتلاء والامتحان ليختبر خلقه أيهم أحسن عملا فيكون عمله موافقا لمحاب الرب تعالى فيوافق الغاية التي خلق هو لها وخلق لأجلها العالم وهي عبوديته المتضمنة لمحبته وطاعته وهي العمل الأحسن وهو مواقع محبته ورضاه وقدر سبحانه مقادير تخالفها بحكمته في تقديرها وامتحن خلقه بين أمره وقدره ليبلوهم أيهم أحسن عملا
فانقسم الخلق في هذا الابتلاء فريقين فريقا داروا مع أوامره ومحابه ووقفوا حيث وقف بهم الأمر وتحركوا حيث حركهم الأمر واستعملوا الأمر في القدر وركبو سفينة الأمر في بحر القدر وحكموا الأمر على القدر ونازعوا القدر بالقدر امتثالا لأمره واتباعا لمرضاته فهؤلاء هم الناجون
والفريق الثاني عارضوا بين الأمر والقدر وبين ما يحبه ويرضاه وبين ما قدره وقضاه ثم افترقوا أربع فرق
فرقة كذبت بالقدر محافظة على الأمر فأبطلت الأمر من حيث حافظت على القدر فإن الإيمان بالقدر أصل الإيمان بالأمر وهو نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه إيمانه
وفرقة ردت الأمر بالقدر وهؤلاء من أكفر الخلق وهم الذين حكى الله قولهم في القرآن إذ قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء وقالوا أيضا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء وقالوا ايضا لو شاء الرحمن ما عبدناهم وقالوا أيضا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه
فجعلهم الله سبحانه وتعالى بذلك مكذبين خارصين ليس لهم علم وأخبر أنهم في ضلال مبين
وفرقة دارت مع القدر فسارت بسيره ونزلت بنزوله ودانت به ولم تبال وافق الأمر أو خالفه بل دينها القدر فالحلال ما حل بيدها قدرا والحرام ما حرمته قدرا وهم مع من غلب قدرا من مسلم أو كافر برا كان أو فاجرا وخواص هؤلاء وعبادهم لما شهدوا الحقيقة الكونية القدرية صاروا مع الكفار المسلطين بالقدر وهم خفراؤهم فهؤلاء أيضا كفار
وفرقة وقفت مع القدر مع اعترافها بأنه خلاف الأمر ولم تدن به ولكنها استرسلت معه ولم تحكم عليه الأمر وعجزت عن دفع القدر بالقدر اتباعا للأمر فهؤلاء مفرطون وهم بين عاجز وعاص لله وهؤلاء الفرق كلهم مؤتمون بشيخهم إبليس فإنه أول من قدم القدر على الأمر وعارضه به وقال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين وقال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم فرد أمر الله بقدره واحتج على ربه بالقدر وانقسم أتباعه أربع فرق كما رأيت فإبليس وجنوده أرسلوا بالقدر إرسالا كونيا فالقدر دينهم قال الله تعالى ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فدينهم القدر ومصيرهم سقر فبعث الله الرسل بالأمر وأمرهم أن يحاربوا به أهل القدر وشرع لهم من أمره سفنا وأمرهم أن يركبوا فيها هم وأتباعهم في بحر القدر وخص بالنجاة من ركبها كما خص بالنجاة أصحاب السفينة وجعل ذلك آية للعالمين فأصحاب الأمر حرب لأصحاب القدر حتى يردوهم إلى الأمر وأصحاب القدر يحاربون أصحاب الأمر حتى يخرجوهم منه فالرسل دينهم الأمر مع إيمانهم بالقدر وتحكيم الأمر عليه وإبليس وأتباعه دينهم القدر ودفع الأمر به فتأمل هذه المسألة في القدر والأمر وانقسام العالم فيها إلى هذه الأقسام الخمسة وبالله التوفيق

فحركات العالم العلوي والسفلي وما فيهما موافقة للأمر إما الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه وإما الأمر الكوني الذي قدره وقضاه وهو سبحانه لم يقدره سدى ولا قضاه عبثا بل لما فيه من الحكمة والغايات الحميدة وما يترتب عليه من أمور يحب غاياتها وإن كره أسبابها ومادئها فإنه سبحانه وتعالى يحب المغفرة وإن كره معاصي عباده ويحب الستر وإن كره ما يستر عبده عليه ويحب العتق وإن كره السبب الذي يعتق عليه من النار ويحب العفو كما في الحديث أللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني وإن كره ما يعفو عنه من الأوزار ويحب التوابين وتوبتبهم وإن كره معاصيهم
التي يتوبون إليه منها منها ويحب الجهاد وأهله بل هم أحب خلقه إليه وإن كره أفعال من يجاهدونه وهذا باب واسع قد فتح لك فادخل منه يطلعك على رياض من المعرفة مونقة مات من فاتته بحسرتها وبالله التوفيق

وهذا موضع يضيق عنه عدة أسفار واللبيب يدخل إليه من بابه وسر هذا الباب أنه سبحانه كامل في أسمائه وصفاته فله الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه ما وهو يحب أسماءه وصفاته ويحب ظهور آثارها في خلقه فإن ذلك من لوازم كماله فإنه سبحانه وتر يحب الوتر جميل يحب الجمال عليم يحب العلماء جواد يحب الأجواد قوي والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف حيي يحب أهل الحياء وفي يحب أهل الوفاء شكور يحب الشاكرين صادق يحب الصادقين محسن يحب المحسنين
فإذا كان يحب العفو والمغفرة والحلم والصفح والستر لم يكن بد من تقديره للأسباب التي تظهر آثار هذه الصفات فيها ويستدل بها عباده على كما أسمائه وصفاته ويكون ذلك أدعى لهم إلى محبته وحمده وتمجيده والثناء عليه بما هو أهله فتحصل الغاية التي خلق لها الخلق وإن فاتت من بعضهم فذلك لفوات سبب لكمالها وظهورها فتضمن ذلك الفوات المكروه له أمرا هو أحب إليه من عدمه فتأمل هذا الموضع حق التأمل وهذا ينكشف يوم القيامة للخليفة بأجمعهم حين يجمعهم في صعيد واحد ويوصل إلى كل نفس ما ينبغي إيصاله إليها من الخير والشر واللذة والألم حتى مثقال الذرة ويوصل كل نفس إلى غاياتها التي تشهد هي أنها أولى بها فحينئذ ينطق الكون بأجمعه بحمده تبارك وتعالى قالا وحالا كما قال سبحانه وتعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين فحذف فاعل القول لأنه غير معين بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم فيه فيحمده أهل السموات وأهل الأرض والأبرار والفجار والإنس والجن حتى أهل النار قال الحسن أو غيره لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا وهذا والله أعلم هو السر الذي حذف لأجله الفاعل في قوله قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها وقوله وقيل ادخلا النار مع الداخلين كأن الكون كله نطق بذلك وقاله لهم والله تعالى أعلم بالصواب



الباب الخامس في دواعي المحبة ومتعلقها الداعي قد يراد به الشعور الذي
تتبعه الإرادة والميل فذلك قائم بالمحب وقد يراد به السبب الذي لأجله وجدت المحبة وتعلقت به وذلك قائم بالمحبوب ونحن نريد بالداعي مجموع الأمرين وهو ما قام بالمحبوب من الصفات التي تدعو إلى محبته وما قام بالمحب من الشعور بها والموافقة التي بين المحب والمحبوب وهي الرابطة بينهما وتسمى بين المخلوق والمخلوق مناسبة وملاءمة
فها هنا أمور وصف المحبوب وجماله وشعور المحب به والمناسبة وهي العلاقة والملاءمة التي بين المحب والمحبوب فمتى قويت الثلاثة وكملت قويت المحبة واستحكمت ونقصان المحبة وضفعها بحسب ضعف هذه الثلاثة أو نقصها فمتى كان المحبوب في غاية الجمال وشعور المحب بجماله أتم شعور والمناسبة التي بين الروحين قوية فذلك الحب اللازم الدائم وقد يكون الجمال في نفسه ناقصا لكن هو في عين المحب كامل فتكون قوة محبته بحسب ذلك الجمال عنده فإن حبك للشيء يعمي ويصم فلا يرى المحب أحدا أحسن من محبوبه كما يحكى أن عزة دخلت على الحجاج فقال لها يا عزة والله ما أنت كما قال فيك كثير فقالت أيها الأمير إنه لم يرني بالعين التي رأيتني بها ولا ريب أن المحبوب أحلى في عين محبه وأكبر في صدره من غيره وقد أفصح بهذا القائل في قوله
فوالله ما أدري أزيدت ملاحة
وحسنا على النسوان أم ليس لي عقل وقد يكون الجمال موفرا لكنه ناقص الشعور به فتضعف محبته لذلك فلو كشف له عن حقيقته لأسر قلبه ولهذا أمر النساء بستر وجوههن عن الرجال فإن ظهور الوجه يسفر عن كمال المحاسن فيقع الافتتان ولهذا شرع للخاطب أن ينظر إلى المخطوبة فإنه إذا شاهد حسنها وجمالها كان ذلك أدعى إلى حصول المحبة والألفة بينهما كما أشار إليه النبي في قوله إذا أراد أحدكم خطبة امرأة فلينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما أي يلأم ويوافق ويصلح ومنه الأدام الذي يصلح به الخبز وإذا وجد ذلك كله وانتفت المناسبة والعلاقة التي بينهما لم تستحكم المحبة وربما لم تقع البتة فإن التناسب الذي بين الأرواح من أقوى أسباب المحبة فكل امرىء يصبو إلى ما يناسبه


وهذه المناسبة نوعان أصلية من أصل الخلقة وعارضة بسبب المجاورة أو الاشتراك في أمر من الأمور فإن من ناسب قصدك قصده حصل التوافق بين روحك وروحه فإذا اختلف القصد زال التوافق فأما التناسب الأصلي فهو اتفاق أخلاق وتشاكل أرواح وشوق كل نفس إلى مشاكلها فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلقة فتنجذب إليه بالطبع فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلقة فتنجذب كل منهما إلى الأخرى بالطبع وقد يقع الانجذاب والميل بالخاصية وهذا لا يعلل ولا يعرف سببه كانجذاب الحديد إلى الحجر المغناطيس ولا ريب أن وقوع هذا القدر بين الأرواح أعظم من وقوعه بين الجمادات كما قيل
محاسنها هيولى كل حسن
ومغناطيس أفئدة الرجال
وهذا الذي حمل بعض الناس على أن قال إن العشق لا يقف على الحسن والجمال ولا يلزم من عدمه عدمه وإنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة كما قيل
وما الحب من حسن ولا من ملاحة
ولكنه شيء به الروح تكلف
قال هذا القائل فحقيقته انه مرآة يبصر فيها المحب طباعة ورقته في صورة محبوبة ففي الحقيقة لم يحب إلا نفسه وطباعه ومشاكله


قال بعضهم لمحبوبه صادفت فيك جوهر نفسي ومشاكلتها في كل أحوالها فانبعثت نفسي نحوك وانقادت إليك وإنما هويت نفسي وهذا صحيح من وجه فإن المناسبة علة الضم شرعا وقدرا وشاهد هذا بالاعتبار أن أحب الأغذية إلى الحيوان ما كان أشبه بجوهر بدنه وأكثر مناسبة له وكلما قويت المناسبة بين الغاذي والغذاء كان ميل النفس إليه أكثر وكلما بعدت المناسبة حصلت النفرة عنه ولا ريب أن هذا قدر زائد على مجرد الحسن والجمال ولهذا كانت النفوس الشريفة الزكية العلوية تعشق صفات الكمال بالذات فأحب شيء إليها العلم والشجاعة والعفة والجود والإحسان والصبر والثبات لمناسبة هذه الأوصاف لجوهرها بخلاف النفوس اللئيمة الدنية فإنها بمعزل عن محبة هذه الصفات وكثير من الناس يحمله على الجود والإحسان فرط عشقه ومحبته له واللذة التي يجدها في بذله كما قال المأمون لقد حبب إلي العفو حتى خشيت أن لا أؤجر عليه وقيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى تعلمت هذا العلم لله فقال أما لله فعزيز ولكن شيء حبب إلي ففعلته وقال آخر إني لأفرح بالعطاء وألتذ به أكثر وأعظم مما يفرح الآخذ بما يأخذه مني وفي هذا قيل في مدح بعض الكرماء من أبيات
وتأخذه عند المكارم هزة
كما اهتز عند البارح الغصن الرطب
وقال شاعر الحماسة
تراه إذا ماجئته متهللا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله

وكثير من الأجواد يعشق الجود أعظم عشق فلا يصبر عنه مع حاجته إلى ما يجود به ولا يقبل فيه عذل عاذل ولا تأخذه فيه لومة لائم وأما عشاق العلم فأعظم شغفا به وعشقا له من كل عاشق بمعشوقه وكثير منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر وقيل لامرأة الزبير بن بكار أو غيره هنيئا لك إذ ليست لك ضرة فقالت والله لهذه الكتب أضر علي من عدة ضرائر
وحدثني أخو شيخنا عبدالرحمن بن تيمية عن أبيه قال كان الجد إذا دخل الخلاء يقول لي اقرأ في هذا الكتاب وارفع صوتك حتى اسمع وأعرف من أصابه مرض من صداع وحمى وكان الكتاب عند رأسه فإذا وجد إفاقة قرأ فيه فإذا غلب وضعه فدخل عليه الطبيب يوما وهو كذلك فقال إن هذا لا يحل لك فإنك تعين على نفسك وتكون سببا لفوات مطلوبك وحدثني شيخنا قال ابتدأني مرض فقال لي الطبيب إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض فقلت له لا أصبر على ذلك وأنا أحاكمك إلى علمك أليست النفس إذا فرحت وسرت قويت الطبيعة فدفعت المرض فقال بلى فقلت له فإن نفسي تسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة فقال هذا خارج عن علاجنا أو كما قال


فعشق صفات الكمال من أنفع العشق وأعلاه وإنما يكون بالمناسبة التي بين الروح وتلك الصفات ولهذا كان أعلى الأرواح وأشرفها أعلاها وأشرفها معشوقا كما قيل
أنت القتيل بكل من أحببته
فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي


فإذا كانت المحبة بالمشاكلة والمناسبة ثبتت وتمكنت ولم يزلها إلا مانع أقوى من السبب وإذا لم تكن بالمشاكلة فإنما هي محبة لغرض من الأغراض تزول عند انقضائه وتضمحل فمن أحبك لأمر ولى عند انقضائه فداعى المحبة وباعثها إن كان غرضا للمحب لم يكن لمحبته بقاء وإن كان أمرا قائما بالمحبوب سريع الزوال والانتقال زالت محبته بزواله وإن كان صفة لازمة فمحبته باقية ببقاء داعيها مالم يارضه يعارضه يوجب زوالها وهو إما تغير حال في المحب أو أذى من المحبوب فإن الأذى إما أن يضعف المحبة أو يزيلها
قال الشاعر
خذي العفو مني تستديمي مودتي
ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
فإني رأيت الحب في القلب والأذى
إذ اجتمعا لم يلبث الحب يذهب
وهذا موضع انقسم المحبون فيه قسمين ففرقة قالت ليس بحب صحيح ما يزيله الأذى بل علامة الحب الصحيح أنه لا ينقص بالجفوة ولا يذهبه أذى قالوا بل المحب يلتذ بأذى محبوبه له كما قال أبو الشيص
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنه ولا متقدم
وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا
ما من يهون عليك ممن يكرم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
إذ كن حظي منك حظي منهم
أجد الملامة في هواك لذيذة
حبا لذكرك فليلمني اللوم
فهذا هو الحب على الحقيقة فإنه متضمن لغاية الموافقة بحيث قد اتخذ مراده ومراد محبوبه من نفسه فأهان نفسه موافقة لإهانة محبوبه له وأحب أعداءه لما أشبههم محبوبه في أذاه وهذا وإن كانت الطباع تأباه لكنه موجب الحب التام ومقتضاه وقالت فرقة بل الأذى مزيل للحب فإن الطباع مجبولة على كراهة من يؤذيها كما أن القلوب مجبولة على حب من يحسن إليها وما ذكره أولئك فدعوى منهم والإنصاف أن يقال يجتمع في القلب بغض أذى الحبيب وكراهته ومحبته من وجه آخر فيحبه ويبغض أذاه وهذا هو الواقع والغالب منها يوارى المغلوب ويبقى الحكم له وقد كشف عن بعض هذا المعنى الشاعر في قوله
ولو قلت طأ في النار أعلم أنه
رضا لك أو مدن لنا من وصالك
لقدمت رجلى نحوها فوطئتها
هدى منك لي أو ضلة من ضلالك
وإن ساءني أن نلتني بمساءة
فقد سرني أني خطرت ببالك
فهذا قد أنصف حيث أخبر أنه يسوؤه أن يناله محبوبه بمساءة ويسره خطوره بباله لا كمن ادعى انه يلتذ بأذى محبوبه له فإن هذا خارج عن الطباع اللهم إلا أن يكون ذلك الأذى وسيلة إلى رضى المحبوب وقربه فإنه يلتذ به إذا لاحظ غايته وعاقبته فهذا يقع وقد أخبرني بعض الأطباء قال إني ألتذ بالدواءالكريه إذا علمت ما يحصل به من الشفاء وأضعه على لساني وأترشفه محبة له ومن هذا التذاذ المحبين بالمشاق التي توصلهم إلى وصال محبوبهم وقربه وكلما ذكروا روح الوصال وأن ما هم فيه طريق موصل إليه لذ لهم مقاساته وطاب لهم تحمله كما قال الشاعر
لها أحاديث من ذكراك تشغلها
عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به
ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا شكت من كلال السير أوعدها
روح اللقاء فتقوى عند ميعاد


والمقصود أن المحبة تستدعي مشاكلة ومناسبة وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها أن امرأة كانت تدخل على قريش فتضحكهم فقدمت المدينة فنزلت على امرأة تضحك الناس فقال النبي على من نزلت فلانة فالت على فلانة المضحكة فقال الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وأصل الحديث في الصحيح وذكر لبقراط رجل من أهل النقص يحبه فاغتم لذلك وقال ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه وأخذا المتنبي هذا المعنى فقلبه وأجاد فقال
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني فاضل

وقال بعض الأطباء العشق امتزاج الروح بالورح لما بينهما من التناسب والتشاكل فإذا امتزج الماء بالماء امتنع تخليص بعضه من بعض ولذلك تبلغ المحبة بين الشخصين حتى يتألم أحدهما بتألم الآخر ويسقم بسقمه وهو لا يشعر ويذكر أن رجلا كان يحب شخصا فمرض فدخل عليه أصحابه يعودونه فوجدوا به خفة فانبسط معهم وقال من أين جئتم قالوا من عند فلان عدناه فقال أو كان عليلا قالوا نعم وقد عوفي فقال والله لقد أنكرت علتي هذه ولم أعرف لها سببا غير أني توهمت أن ذلك لعلة نالت بعض من أحب ولقد وجدت في يومي هذا راحة ففرحت طمعا أن يكون الله سبحانه وتعالى شفاه ثم دعا بدواة فكتب إلى محبوبه
إني حممت ولم أشعر بحماك
حتى تحدث عوادي بشكواك
فقلت ما كانت الحمى لتطرقني
من غير ما سبب إلا لحماك
وخصلة كنت فيها غير متهم
عافاني الله منها حين عافاك
حتى اتفقت نفسي ونفسك في هذا وذاك وفي هذا وفي ذاك
ويحكى أن رجلا مرض من يحبه فعاده المحب فمرض من وقته فعوفي محبوبه فجاء يعوده فلما رآه عوفي من وقته وأنشد
مرض الحبيب فعدته
فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني
فبرئت من نظري إليه
وأنت إذا تأملت الوجود لا تكاد تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلةأو اتفاق في فعل أو حال أو مقصد فإذا تباينت المقاصد والأوصاف والأفعال والطرائق لم يكن هناك إلا النفرة والبعد بين القلوب ويكفي في هذا الحديث الصحيح عن رسول الله مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر

فإن قيل فهذا الذي ذكرتم يقتضي أنه إذا أحب شخص شخصا أن يزن الآخر يحبه فيشتركان في المحبة والواقع يشهد بخلافه فكم من محب غير محبوب بل بسيف البغض مضروب قيل قد اختلف الناس في جواب هذا السؤال فأما أبو محمد بن حزم فإنه قال الذي أذهب إليه أن العشق اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخلقة في أصل عنصرها الرفيع لا على ما حكاه محمد بن داود عن بعض أهل الفلسفة أن الأرواح أكر مقسومة لكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي ومجاورتها في هيئة تركيبها وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال فالشكل إنما يستدعي شكله والمثل إلى مثله ساكن وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد والتنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد والنزاع فيما تشابه موجود بيننا فكيف بالنفس وعالمها العالم الصافي الخفيف وجوهرها الجوهر الصعاد المعتدل وسنخها المهيأ لقبول الاتفاق والميل والتوق والانحراف والشهوة والنفار والله تعالى يقول هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فجعل علة السكون أنها منه ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب أن لا يستحسن الأنقص من الصور ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فلضل غيره ولا يجد محيدا لقلبه عنه ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه فعلمنا أنه شيء في ذات النفس وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب وتلك تفنى بفناء سببها
قال ومما يؤكد هذا القول أننا قد علمنا أن المحبة ضروب فأفضلها محبة المتحابين في الله عز و جل إما لاجتهاد في العمل وإما لاتفاق في أصل المذهب وإما لفضل علم يمنحه الإنسان ومحبة القرابة ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب ومحبة التصاحب والمعرفة ومحبة لبر يضعه المرء عند أخيه ومحبة لطمع في جاه المحبوب ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره ومحبة لبلوغ اللذة وقضاء الوطر ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس وكل هذه الأجناس فمنقضية مع انقضاء عللها وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها متأكدة بدنوها فاترة ببعدها حاشا محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس ثم أورد هذا السؤال قال والجواب أن نفس الذي لا يحب من يحبه مكتنفة الجهات ببعض الأعراض الساترة والحجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية فلم تحس بالجزء الذي كان متصلا بها قبل حلولها حيث هي ولو تخلصت لاستويا في الاتصال والمحبة ونفس المحب متخلصة عالمة بمكان ما كان يشركها في المجاورة طالبة له قاصدة إليه باحثة عنه مشتهية لملاقاته جاذبة له لو أمكنها كالمغناطيس والحديد وكالنار في الحجر
وأجابت طائفة أخرى أن الأرواح خلقت على هيئة الكرة ثم قسمت فأي روحين تلاقيتا هناك وتجاورتا تألفتا في هذا العالم وتحابتا وإن تنافرتا هناك تنافرتا هنا وإن تألفتا من وجه وتنافرتا من وجه كانتا كذلك ها هنا وهذا الجواب مبني على الأصل الفاسد الذي أصله هؤلاء أن الأرواح موجودة قبل الأجساد وأنها كانت متعارفة متجاورة هناك تتلاقى وتتعارف وهذا خطأ بل الصحيح الذي دل عليه الشرع والعقل أن الأرواح مخلوقة مع الأجساد وأن الملك الموكل بنفخ الروح في الجسد ينفخ فيه الروح إذا مضى على النطفة أربعة أشهر ودخلت في الخامس وذلك أول حدوث الروح فيه ومن قال إنها مخلوقة قبل ذلك فقد غلط وأقبح منه قول من قال إنها قديمة أو توقف في ذلك بل الصواب في الجواب أن يقال إن المحبة كما تقدم قسمان محبة عرضية غرضية فهذه لا يجب الاشتراك فيها بل يقارنها مقت المحبوب وبغضه للمحب كثيرا إلا إذا كان له معه غرض نظير غرضه فإنه يحبه لغرضه منه كما يكون بين الرجل والمرأة اللذين لكل منهما غرض مع صاحبه والقسم الثاني محبة روحانية سببها المشاكلة والاتفاق بين الروحين فهذه لا تكون إلا من الجانبين ولا بد فلو فتش المحب المحبة الصادقة قلب المحبوب لوجد عنده من محبته نظير ما عنده أو دونه أو فوقه

فصل
وإذا كانت المحبة من الجانبين استراح بها كل واحد من المحبين وسكن ذلك بعض ما به وعده نوعا من الوصال وقالت امرأة من العرب
حججت ولم أحجج لذنب عملته
ولكن لتعديني على قاطع الحبل
ذهبت بعقلي في هواه صغيره
وقد كبرت سني فرد به عقلي
وإلا فسو الحب بيني وبينه
فإنك يا مولاي توصف بالعدل
وقال آخر
فيا رب أشغلها بحبي كما بها
شغلت فؤادي كي يخف الذي بيا


وقالت امرأة تعاتب بعلها أسأل الذي قسم بين العباد معايشهم أن يقسم الحب بيني وبينك ثم أنشدت
أدعو الذي صرف الهوى
مني إليك ومنك عني
أن يبتليك بما ابتلا
ني أو يسل الحب مني
وقال آخر
فيا رب إن لم تقسم الحب بيننا
بشطرين فاجعلني على هجرها جلدا
وأعقبني السلوان عنها ورد لي
فؤادي من سلمى أثبك به حمدا
وقال أبو الهذيل العلاف لا يجوز في دور الفلك ولا في تركيب الطبائع ولا في الواجب ولا في الممكن أن يكون محب ليس لمحبوبه إليه ميل وإلى هذا المذهب ذهب أبو العباس الناشىء حيث يقول
عيناك شاهدتان أنك من
حر الهوى تجدين ما أجد
بك ما بنا لكن على مضض
تتجلدين وما بنا جلد
وقال أبو عيينه
تبيت بنا تهذي وأهذى بذكرها
كلانا يقاسي الليل وهو مسهد
وما رقدت إلا رأتني ضجيعها
كذاك أراها في الكرى حين أرقد
تقر بذنبي حين أغفو ونلتقي
وأسألها يقظان عنه فتجحد
كلانا سواء في الهوى غير أنها
تجلد أحيانا وما لي تجلد

وقال عروة بن أذينة
إن التي زعمت فؤادك ملها
خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك الذي زعمت بها فكلاكما
أبدى لصاحبه الصبابة كلها

فإذا تشاكلت النفوس وتمازجت الأرواح وتفاعلت تفاعلت عنها الأبدان وطلبت نظير الامتزاج والجوار الذي بين الأرواح فإن البدن آلة الروح ومركبه وبهذا ركب الله سبحانه شهوة الجماع بين الذكر والأنثى طلبا للامتزاج والاختلاط بين البدنين كما هو بين الروحين ولهذا يسمى جماعا وخلاطا ونكاحا وإفضاء لأن كل واحد منهما يفضي إلى صاحبه فيزول الفضاء بينهما
فإن قيل فهذا يوجب تأكد الحب بالجماع وقوته به والواقع خلافه فإن الجماع يطفىء نار المحبة ويبرد حرارتها ويسكن نفس المحب قيل الناس مختلفون في هذا فمنهم من يكون بعد الجماع أقوى محبة وأمكن وأثبت مما قبله ويكون بمنزلة من وصف له شيء ملائم فأحبه فلما ذاقه كان له اشد محبة وإليه أشد اشتياقا وقد ثبت في الصحيح عن النبي في حديث عروج الملائكة إلى ربهم أنه سبحانه يسألهم عن عباده وهو أعلم بهم فيقولون إنهم يسبحونك ويحمدونك ويقدسونك فيقول وهل رأوني فيقولون لا فيقول فكيف لو رأوني تقول الملائكة لو رأوك لكانوا أشد تسبيحا وتقديسا وتمجيدا ثم يقولون ويسألونك الجنة فيقول وهل رأوها فيقولون لا فيقول فكيف لو رأوها فتقول الملائكة لو رأوها لكانوا أشد لها طالبا وذكر الحديث ومعلوم أن محبة من ذاق الشيء الملائم وعدم صبره عنه أقوى من محبة من لم يذقه بل نفسه مفطومة عنه والمودة التي بين الزوجين والمحبة بعد الجماع أعظم من التي كانت قبله والسبب الطبيعي أن شهوة القلب ممتزجة بلذة العين فإذا رأت العين اشتهى القلب فإذا باشر الجسم الجسم اجتمع شهوة القلب ولذة العين ولذة المباشرة فإذا فارق هذه الحال كان نزاع نفسه إليها أشد وشوقه إليها أعظم كما قيل
وأكثر ما يكون الشوق يوما

إذا دنت الديار من الديار
ولذلك يتضاعف الألم والحسرة على من راى محبوبه أو باشره ثم حيل بينه وبينه فتضاعف ألمه وحسرته في مقابلة مضاعفة لذة من عاوده وهذا في جانب المرأة أقوى فإنها إذا ذاقت عسيلة الرجل ولا سيما أول عسيلة لم تكد تصبر عنه بعد ذلك قال أيمن بن خريم
يميت العتاب خلاط النساء
ويحي اجتناب الخلاط العتابا
وتزوج زهير بن مسكين الفهري جارية ولم يكن عنده ما يرضيها به فلما أمكنته من نفسها لم تر عنده ما ترضى به فذهبت ولم تعد فقال في ذلك أشعارا كثيرة منها
تقول وقد قبلتها ألف قبلة
كفاك أما شيء لديك سوى القبل
فقلت لها حب على القلب حفظه
وطول بكاء تستفيض له المقل
فقالت لعمر الله ما لذة الفتى
من الحب في قول يخالفه الفعل
وقال آخر
رأت حبي سعاد بلا جماع
فقالت حبلنا حبل انقطاع
ولست أريد حبا ليس فيه
متاع منك يدخل في متاعي
فلو قبلتني ألفا وألفا
لما أرضيت إلا بالجماع
إذا ما الصب لم يك ذا جماع
يرى المحبوب كالشيء المضاع
جماع الصب غاية كل أنثى
وداعية لأهل العشق داعي
فقلت لها وقد ولت تعالي
فإنك بعد هذا لن تراعي
وإنك لو سألت بقاء يوم
خلي عن جماعك لن تطاعي
فقالت مرحبا بفتى كريم
ولا أهلا بذي الخنع اليراع
إذا ما البعل لم يك ذا جماع
يرى في البيت من سقط المتاع
وقال آخر
ولما شكوت الحب قالت كذبتني
فكم زورة مني قصدتك خاليا
فما حل فيها من إزار للذة
قعدت وحاجات الفؤاد كما هيا
وهل راحة للمرء في ورد منهل
ويرجع بعد الورد ظمآن صاديا

وقال العباس بن الأحنف
لم يصف وصل لمعشوقين لم يذقا
وصلا يجل على كل اللذاذات

وقال هدبة بن الخشرم
والله ما يشفي الفؤاد الهائما
نفث الرقى وعقدك التمائما
ولا الحديث دون أن تلازما
ولا اللزام دون أن تفاعما
ولا الفعام دون أن تفاقما
وتعلو القوائم القوائما

وقال آخر
قولا لعاتكة التي
في نظرة قضت الوطر
إني أريدك للنكاح
ولا أريدك للنظر
لو كان هذا مقنعي
لقنعت عنها بالقمر
وقال آخر
دواء الحب تقبيل وشم
ووضع للبطون على البطون
ورهز تذرف العينان منه
وأخذ بالمناكب والقرون

وقالت امرأة وقد طلبت منها المحادثة
ليس بهذا أمرتني أمي
ولا بتقبيل ولا بشم
لكن جماعا قد يسلي همي
يسقط منه خاتمي في كمي

وقد كشف الشاعر سبب ذلك حيث يقول
لو ضم صب إلفه ! ألفا لما
أجدى وزادت لوعة وغرام
أرواحهم من قبل ذاك تألفت
فتألفت من بعدها الأجسام

وقال المؤلف
سألت فقيه الحب عن علة الهوى
وقلت له أشكو إلى الشيخ حاليا
فقال دواء الحب أن تلصق الحشا
بأحشاء من تهوى إذا كنت خاليا
وتتحدا من بعد ذاك تعانقا
وتلثمه حتى يرى لك ناهيا
فتقضي حاجات الفؤاد بأسرها على الأمن ما دام الحبيب مؤاتيا
إذا كان هذا في حلال فحبذا
وصالبه الرحمن تلقاه راضيا
وإن كان هذا في حرام فإنه
عذاب به تلقى العنا والمكاويا


قال هؤلاء ولا يستحكم الحب إلا بعد أن يشق الرجل رداءه وتشق المرأة المعشوقة برقعها كما قال الشاعر
إذا شق برد شق بالبرد برقع
دواليك حتى كلنا غير لانس
فكم قد شققنا من رداء محبر
ومن برقع عن طفلة غير عانس
ولما بلغ بعض الظرفاء قول المأمون ما الحب إلا قبلة الأبيات قال كذب المأمون ثم قال
وباض الحب في قلبي
فوا ويلا إذا فرخ
وما ينفعني حبي
إذا لم أكنس البربخ
وإن لم يضع الأصل
ع خرجيه على المطبخ

وقال ابن الرومي
أعانقها والنفس بعد مشوقة
إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاها كي تزول صبابثي !
فيشتد ما ألقى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بي من الجوى
ليشفيه ما ترشف الشفتان
كأن فؤادي ليس يشفي غليله
سوى أن أرى الروحين تمتزجان


وقال الطبراني في معجمه الأوسط حدثنا بكر بن سهل حدثنا عبدالله بن يوسف حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال يا رسول الله عندنا يتيمة قد خطبها رجلان موسر ومعسر وهي تهوى المعسر ونحن نهوى الموسر فقال لم ير للمتحابين مثل التزويج قال أبو القاسم الطبراني لم يروه عن طاوس إلا إبراهيم ولا رواه عن إبراهيم إلا محمد بن مسلم وسفيان الثوري تفرد به مؤمل بن إسماعيل عن الثوري انتهى وقد رواه أبو الفرج بن الجوزي من حديث حسان بن بشر حدثنا أحمد بن حرب حدثنا ابن عيينة حدثنا عمرو عن جابر فذكره وقال المعافى بن عمران حدثنا إبراهيم بن يزيد عن سليمان بن موسى عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما وحدثنا علي بن حرب الطائي حدثنا ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس وذكره الدارقطني في كتاب الغرائب وقالتفرد به يزيد ابن مروان عن عمرو بن هرون عن عثمان بن الأسود المكي عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس
وقالت هند بنت المهلب ما رأيت لصالحي النساء وشرارهن خيرا من إلحاقهن بمن يسكن إليه من الرجال ولرب مسكون إليه غير طائل والسكن على كل حال أوفق

وذكر الحاكم في تاريخ نيسابور من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه أربع لا يشبعن من أربع أرض من مطر وأنثى من ذكر وعين من نظر وعالم من علم وهذا باطل قطعا على رسول الله وهو كثير عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكر الطبراني في معجمه الأوسط من حديث ابن عمر يرفعه فضل ما بين لذة المرأة ولذة الرجل كأثر المخيط في الطين إلا أن الله سترهن بالحياء وقال لم يروه عن ليث إلا أبو المسيب سلم بن سلام عن سويد عن عبدالله بن أسامة عن يعقوب ابن خالد عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قلت وهذا أيضا لا يصح عن رسول الله وإسناده مظلم لا يحتج بمثله


فصل
ورأت طائفة أن الجماع يفسد العشق ويبطله أو يضعفه واحتجت بأمور منها أن الجماع هو الغاية التي تطلب بالعشق فما دام العاشق طالبا فعشقه ثابت فإذا وصل إلى الغاية قضى وطره وبردت حرارة طلبه وطفئت نار عشقه قالوا وهذا شأن كل طالب لشيء إذا ظفر به كالظمآن إذا روي والجائع إذا شبع فلا معنى للطلب بعد الظفر ومنها أن سبب العشق فكري وكلما قوي الفكر زاد العشق وبعد الوصول لا يبقى الفكر ومنها أنه قبل الظفر ممنوع والنفس مولعة بحب ما منعت منه كما قال


وزادني كلفا في الحب أن منعت
أحب شيء إلى الإنسان ما منعا

وقال الآخر
لولا طراد الصيد لم تك لذة
فتطاردي لي بالوصال قليلا


قالوا وكانت الجاهلية الجهلاء في كفرهم لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا وكانوا يصونون العشق عن الجماع كما ذكر أن أعرابيا علق امرأة فكان يأتيها سنين وما جرى بينهما ريبة قال فرأيت ليلة بياض كفها في ليلة ظلماء فوضعت يدي على يدها فقالت مه لا تفسد ما صلح فإنه ما نكح حب إلا فسد فأخذ ذلك المأمون فقال
ما الحب إلا نظرة
وغمز كف وعضد
أو كتب فيها رقى
أجل من نفث العقد
ما الحب إلا هكذا
إن نكح الحب فسد
من كان هذا حبه
فإنما يبغي الولد

وهوي آخر امرأة فدام الحال بينهما في اجتماع وحديث ونظر ثم إنه جامعها فقطعت الوصل بينهما فقال
لو لم أواقع دام لي وصلها
فليتني لا كنت واقعتها

وقيل لآخر شكا فراق محبوبة له
أكثرت من وطئها والوطء مسأمة
فارفق بنفسك إن الرفق محمود
وذكر عمر بن شبة عن بعض علماء أهل المدينة قال كان الرجل يحب الفتاة فإذا ظفر بها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار واليوم يشير إليها وتشير إليه فيعدها وتعده فإذا التقيا لم يشك حبا ولم ينشد شعرا وقام إليها كأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة رضي الله عنه
لم يخط من داخل الدهليز منصرفا
إلا وخلخالها قد قارب الساقا


قال الأصمعي قلت لأعرابية ما تعدون العشق فيكم قالت العناق والضمة والغمزة والمحادثة ثم قالت يا حضري فكيف هو عندكم قلت يقعد بين شعبها الأربع ثم يجهدها قالت يا ابن أخي ما هذا عاشق هذا طالب ولد
وسئل أعرابي عن ذلك فقال مص الريق ولثم الشفة والأخذ من أطايب الحديث فكيف هو فيكم أيها الحضري فقال العفس الشديد والجمع بين الركبة والوريد ورهز يوقظ النائم ويشفي القلب الهائم فقال بالله ما يفعل هذا العدو الشديد فكيف الحبيب الودود


وقال بعضهم الحب يطيب بالنظر ويفسد بالغمز قال هؤلاء والحب الصحيح يوجب إعظام المحبوب وإجلاله والحياء منه فلا تطاوع نفسه أن يلقي جلباب الحياء عند محبوبه وأن يلقيه عنه ففي ذلك غاية إذلاله وقهره كما قيل
إذا كان حظ المرء ممن يحبه
حراما فحظي ما يحل ويجمل
حديث كماء المزن بين فصوله
عتاب به حسن الحديث يفصل
ولثم فم عذب اللثات كأنما
جناهن شهد فت فيه القرنفل
وما العشق إلا عفة ونزاهة
وأنس قلوب أنسهن التغزل
وإني لأستحيي الحبيب من التي
تريب وأدعى للجميل فأحمل
وزعم بعضهم أنه كان يشرط بين العشيقة والعاشق أن له من نصفها الأعلى إلى سرتها ينال منه ما يشاء من ضم وتقبيل ورشف والنصف الأسفل يحرم عليه وفي ذلك قال شاعر القوم
فللحب شطر مطلق من عقاله
وللبعل شطر ما يرام منيع
وقال الآخر
لها شطر فمن حل وبل
ونصف كالبحيرة ما يهاج
وهذا كان من دين الجاهلية فأبطلته الشريعة وجعلت الشطرين كليهما للبعل والشعراء قاطبة لا يرون بالمحادثة والنظر للأجنبيات بأسا وهو مخالف للشرع العقل فإن فيه تعريضا للطبع لما هو مجبول على الميل إليه والطبع يسرق ويغلب وكم من مفتون بذلك في دينه ودنياه فإن قيل فقد أنشد الحاكم في مناقب الشافعي له
يقولون لا تنظر وتلك بلية
ألا كل ذي عينين لا بد ناظر
وليس اكتحال العين بالعين ريبة
إذا عف فيما بين ذاك الضمائر


فإن صحت عن الشافعي فإنما أراد النظر الذي لا يدخل تحت التكليف كنظرة الفجأة أو النظر المباح وقد ذهب أبو بكر محمد بن داود الأصفهاني إلى جواز النظر إلى من لا يحل له كما سيأتي كلامه إن شاء الله تعالى قال أبو الفرج بن الجوزي وأخطأ في ذلك وجر عليه خطؤه اشتهاره بين الناس وافتضاحه وذهب أبو محمد بن حزم إلى جواز العشق للأجنبية من غير ريبة وأخطأ في ذلك خطأ ظاهرا فإن ذريعة العشق أعظم من ذريعة النظر وإذا كان الشرع قد حرم النظر لما يؤدي إليه من المفاسد كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى فكيف يجوز تعاطي عشق الرجل لمن لا يحل له
والمقصود أن هذه الفرقة رأت أن الجماع يفسد العشق فغارت عليه مما يفسده وإن لم تتركه ديانة وقيل لبعض الأعراب ما ينال أحدكم من عشيقته إذا خلي بها قال اللمس والقبل وما يشاكلها قال فهل يتطاولان إلى الجماع فقال بأبي وأمي ليس هذا بعاشق هذا طالب ولد ويحكى أن رجلا عشق امرأة فقالت له يوما أنت صحيح الحب غير سقيمه وكانوا يسمون الحب على الخنا الحب السقيم فقال نعم فقالت اذهب بنا إلى المنزل فما هو إلا أن حصلت في منزله فلم يكن له همة غير جماعها فقالت له وهو كذلك


أسرفت في وطئنا والوطء مقطعة
فارفق بنفسك إن الرفق محمود

فقال لها وهو على حاله
لو لم أطأك لما دامت محبتنا
لكن فعلى هذا فعل مجهود
فنفرت من تحته وقالت يا خبيث أراك خلاف ما قلت من صحة الحب ولم تجعل جماعي إلا سببا لذهاب حبك والله لا ضمني وإياك سقف أبدا وسيأتي تمام الكلام في هذا في باب عفاف المحبين إن شاء الله تعالى



[ روضة المحبين - ابن قيم الجوزية ]
الكتاب : روضة المحبين ونزهة المشتاقين
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله
الناشر : دار الكتب العلمية - بيروت ، 1412 - 1992

ليست هناك تعليقات: