المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 28 ديسمبر 2010

روضة المحبين ونزهة المشتاقين
ابن قيم الجوزية


الباب الأول في أسماء المحبة لما كان الفهم لهذا المسمى أشد وهو
بقلوبهم أعلق كانت أسماؤه لديهم أكثر وهذا عادتهم في كل ما اشتد الفهم له أو كثر خطوره على قلوبهم تعظيما له أو اهتماما به أو محبة له فالأول كالأسد والسيف والثاني كالداهية والثالث كالخمر وقد اجتمعت هذه المعاني الثلاثة في الحب فوضعوا له قريبا من ستين اسما وهي المحبة والعلاقة والهوى والصبوة والصبابة والشغف والمقة والوجد والكلف والتتيم والعشق والجوى والدنف والشجو والشوق والخلابة والبلابل والتباريح والسدم والغمرات والوهل والشجن واللاعج والاكتئاب والوصب والحزن والكمد واللذع والحرق والسهد والأرق واللهف والحنين والاستكانة والتبالة واللوعة والفتون والجنون واللمم والخبل والرسيس والداء المخامر والود والخلة والخلم والغرام والهيام والتدليه والوله والتعبد وقد ذكر له أسماء غير هذه وليست من أسمائه وإنما هي من موجباته وأحكامه فتركنا ذكرها



الباب الثاني في اشتقاق هذه الأسماء ومعانيها فأما المحبة فقيل أصلها
الصفاء لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان وقيل مأخوذة من الحباب وهو ما يعلو الماء عند المطر الشديد فعلى هذا المحبة غليان القلب وثورانه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب وقيل مشتقة من اللزوم والثبات ومنه أحب البعير إذا برك فلم يقم قال الشاعر
حلت عليه بالفلاة ضربا
ضرب بعير السوء إذ أحبا
فكأن المحب قد لزم قلبه محبوبه فلم يرم عنه انتقالا وقيل بل هي مأخوذة من القلق والاضطراب ومنه سمي القرط حبا لقلقه في الأذن واضطرابه قال الشاعر
تبيت الحية النضناض منه
مكان الحب تستمع السرارا


وقيل بل هي مأخوذة من الحب جمع حبة وهو لباب الشيء وخالصه وأصله فإن الحب أصل النبات والشجر وقيل بل هي مأخوذة من الحب الذي هو إناء واسع يوضع فيه الشيء فيمتلئ به بحيث لا يسع غيره
وكذلك قلب المحب ليس فيه سعة لغير محبوبة وقيل مأخوذة من الحب وهو الخشبات الأربع التي يستقر عليها ما يوضع عليها من جرة أو غيرها فسمى الحب بذلك لأن المحب يتحمل لأجل محبوبه الأثقال كما تتحمل الخشبات ثقل ما يوضع عليها وقيل بل هي مأخوذة من حبة القلب وهي سويداؤه ويقال ثمرته فسميت المحبة بذلك لوصولها إلى حبة القلب وذلك قريب من قولهم ظهره إذا أصاب ظهره ورأسه إذا أصاب رأسه ورآه إذا أصاب رئته وبطنه إذا أصاب بطنه ولكن في هذه الأفعال وصل أثر الفاعل إلى المفعول وأما في المحبة فالأثر إنما وصل إلى المحب وبعد ففيه لغتان حب وأحب قال الشاعر

أحب أبا مروان من أجل تمره
وأعلم أن الرفق بالمرء أرفق
ووالله لولا تمره ما حببته
ولا كان أدنى من عبيد ومشرق
كذلك أنشده الجوهري بالإقواء فجمع بين اللغتين ولكن في جانب الفعل واسم الفاعل غلبوا الرباعي فقالوا أحبه يحبه فهو محب وفي المفعلو غلبوا فعل فقالوا في الأكثر محبوب ولم يقولوا محب إلا نادرا قال الشاعر
ولقد نزلت فلا تظني غيره
مني بمنزلة المحب المكرم
فهذا من أفعل وأما حبيب فأكثر استعمالهم له بمعنى المحبوب قال الشاعر
وما زرت ليلى أن تكون حبيبة
إلي ولا دين لها أنا طالبه
وقد استعملوه بمعنى المحب قال الشاعر
وما هجرتك النفس أنك عندها
قليل ولا أن قل منك نصيبها
ولكنهم يا أحسن الناس أولعوا
بقول إذا ما جئت هذا حبيبها
فهذا يحتمل أن يكون بمعنى المحبوب وأن يكون بمعنى المحب وأما الحب بكسر الحاء فلغة في الحب وغالب استعماله بمعنى المحبوب قال في الصحاح الحب المحبة وكذلك الحب بالكسر والحب أيضا الحبيب مثل خدن وخدين قلت وهذا نظير ذبح بمعنى مذبوح ونهب بمعنى منهوب ورشق بمعنى مرشوق ومنه السب ويشترك فيه الفاعل والمفعول قال أبو عبيد السب بالكسر الكثير السباب قال الجوهري وسبك الذي يسابك قال حسان
لا تسبنني فلست بسبي
إن سبي من الرجال الكريم
والصواب أنه عبدالرحمن بن حسان وقد يشترك فيه المصدر والمفعول نحو رزق وفي إعطائهم ضمة الحاء للمصدر سر لطيف فإن الكسرة أخف من الضمة والمحبوب أخف على قلوبهم من نفس الحب فأعطوا الحركة الخفيفة للأخف والثقيلة للأثقل ويقال أحبه حبا ومحبة والمحبة أم باب هذه الأسماء فصل وأما كلام الناس في حدها فكثير فقيل هي الميل الدائم بالقلب الهائم وقيل إيثار المحبوب على جميع المصحوب وقيل موافقة الحبيب في المشهد والمغيب وقيل اتحاد مراد المحب ومراد المحبوب وقيل إيثار مراد المحبوب على مراد المحب وقيل إقامة الخدمة مع القيام بالحرمة وقيل استقلال الكثير منك لمحبوبك واستكثار القليل منه إليك وقيل استيلاء ذكر المحبوب على قلب المحب وقيل حقيقتها أن تهب كلك لمن أحببته فلا يبقى لك منك شيء وقيل هي أن تمحو من قلبك ما سوى المحبوب وقيل هي الغيرة للمحبوب أن تنتقص حرمته والغيرة على القلب أن يكون فيه سواه وقيل هي الإرادة التي لا تنقص بالجفاء ولا تزيد بالبر وقيل هي حفظ الحدود فليس بصادق من ادعى محبة من لم يحفظ حدوده وقيل هي قيامك لمحبوبك بكل ما يحبه منك وقيل هي مجانبة السلو على كل حال كما قيل
ومن كان من طول الهوى ذاق سلوة
فإني من ليلي لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها
أماني لم تصدق كلمعة بارق
وقيل نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب وقيل ذكر المحبوب على عدد الأنفاس كما قيل
يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل


وقيل عمى القلب عن رؤية غير المحبوب وصممه عن سماع العذل فيه وفي الحديث حبك للشيء يعمي ويصم رواه الإمام أحمد وقيل ميلك إلى المحبوب بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سرا وجهرا ثم علمك بتقصيرك في حبه وقيل هي بذلك المجهود فيما يرضى الحبيب وقيل هي سكون بلا اضطراب واضطراب بلا سكون فيضطرب القلب فلا يسكن إلا إلى محبوبه فيضطرب شوقا إليه ويسكن عنده وهذا معنى قول بعضهم هي حركة القلب على الدوام إلى المحبوب وسكونه عنده وقيل هي مصاحبة المحبوب على الدوام كما قيل
ومن عجب أني أحن إليهم

وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
وقيل هي أن يكون المحبوب أقرب إلى المحب من روحه كما قيل
يا مقيما في خاطري وجناني
وبعيدا عن ناظري وعياني
أنت روحي إن كنت لست أراها
فهي أدنى إلي من كل داني
وقيل هي حضور المحبوب عند المحب دائما كما قيل
خيالك في عيني وذكرك في فمي
ومثواك في قلبي فأين تغيب
وقيل هي أن يستوي قرب دار المحبوب وبعدها عند المحب كما قيل
يا ثاويا بين الجوانح والحشى
مني وإن بعدت علي دياره
عطفا على صب يحبك هائم
إن لم تصله تصدعت أعشاره
لا يستفيق من الغرام وكلما

حجبوك عنه تهتكت أستاره
وقيل هي ثبات القلب على أحكام الغرام واستلذاذ العذل فيه والملام كما قيل

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنه ولا متقدم
وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا
ما من يهون عليك ممن يكرم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
إذ كان حظي منك حظي منهم
أجد الملامة في هواك لذيذة
حبا لذكرك فليلمني اللوم
فصل
وأما العلاقة وتسمى العلق بوزن الفلق فهي من أسمائها قال الجوهري والعلق أيضا الهوى يقال نظرة من ذي علق قال الشاعر
ولقد أردت الصبر عنك فعلقني
علق بقلبي من هواك قديم
وقد علقها بالكسر وعلق حبها بقلبه أي هويها وعلق بها علوقا وسميت علاقة لتعلق القلب بالمحبوب قال الشاعر
أعلاقة أم الوليد بعدما
أفنان رأسك كالثغام المخلس
فصل

وأما الهوى فهو ميل النفس إلى الشيء وفعله هوي يهوى هوى مثل عمي يعمى عمى وأما هوى يهوي بالفتح فهو السقوط ومصدره الهوي بالضم ويقال الهوى أيضا على نفس المحبوب قال الشاعر
إن التي زعمت فؤادك ملها

خلقت هواك كما خلقت هوى لها

ويقال هذا هوى فلان وفلانة هواه أي مهويته ومحبوبته وأكثر ما يستعمل في الحب المذموم كما قال الله تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ويقال إنما سمى هوى لأنه يهوي بصاحبه وقد يستعمل في الحب الممدوح استعمالا مقيدا ومنه قول النبي لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما ئت به وفي الصحيحين عن عروة قال كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهم للنبي فقالت عائشة رضي الله عنها أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت ترجي من تشاء منهن قلت يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك وفي قصة أسارى بدر قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهوي رسول الله ما قال أبو بكر رضي الله عنه ولم يهو ما قلت وذكر الحديث وفي السنن أن أعرابيا قال للنبي جئت أسألك عن الهوى فقال المرء مع من أحب
فصل

وأما الصبوة والصبا فمن أسمائها أيضا قال في الصحاح والصبا من الشوق يقال منه تصابا وصبا يصبو صبوة وصبوا أي مال إلى الجهل وأصبته الجارية وصبي صباء مثل سمع سماعا أي لعب مع الصبيان قلت أصل الكلمة من الميل يقال صبا إلى كذا أي مال إليه وسميت الصبوة بذلك لميل صاحبها إلى المرأة الصبية والجمع صبايا مثل مطية ومطايا والتصابي هو تعاطي الصبوة مثل التمايل وبابه والفرق بين الصبا والصبوة والتصابي أن التصابي هي تعاطي الصبا وأن تفعل فعل ذي الصبوة وأما الصبا فهو نفس الميل وأما الصبوة فالمرة من ذلك مثل الغشوة والكبوة وقد يقال على الصفة اللازمة مثل القسوة وقد قال يوسف الصديق عليه السلام وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين
فصل
وأما الصبابة فقال في الصحاح هي رقة الشوق وحرارته يقال رجل صب عاشق مشتاق وقد صببت يا رجل بالكسر قال الشاعر
ولست تصب إلىالظاعنين
إذا ما صديقك لم يصبب
قلت والصبابة من المضاعف من صب يصب والصبا والصبوة من المعتل وهم كثيرا ما يعاقبون بينهما فبينهما تناسب لفظي ومعنوي قال الشاعر
تشكى المحبون الصبابة ليتني

تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
ويقال رجل صب وامرأة صب كما يقال رجل عدل وامرأة عدل


فصل
وأما الشغف فمن أسمائها أيضا قال الله تعالى قد شغفها حبا قال الجوهري وغيره والشغاف غلاف القلب وهو جلدة دونه كالحجاب يقال شغفه الحب أي بلغ شغافه وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما قد شغفها حبا ثم قال دخل حبه تحت الشغاف
فصل
وأما الشعف بالعين المهملة ففي الصحاح شعفه الحب أي أحرق قلبه وقال أبو زيد أمرضه وقد شعف بكذا فهو مشعوف وقرأ الحسن قد شعفها حبا قال بطنها حبا
فصل
وأما المقة فهي فعلة من ومق يمق والمقة المحبة والهاء عوض من الواو كالعظة والعدة والزنة فإن أصلها فعل فحذفوا الفاء فعوضوا منها تاء التأنيث جبرا للكلمة وتعويضا لما سقط منها والفعل ومقه يمقه بالكسر فيهما أي أحبه فهو وامق
فصل
وأما الوجد فهو الحب الذي يتبعه الحزن وأكثر ما يستعمل الوجد في الحزن يقال منه وجد وجدا بالفتح ونحن نذكر هذه المادة وتصاريفها يقال وجد مطلوبه يجده وجودا فإن تعلق ذلك بالضالة سموه وجدانا ووجد عليه في الغضب موجدة ووجد في الحزن وجدا بالفتح ووجد في المال أي صار واجدا وجدا ووجدا ووجدا بالفتح والضم والكسر وجدة إذا استغنى وأما إطلاق اسم الوجد على مجرد مطلق المحبة فغير معروف وإنما يطلق على محبة معها فقد يوجب الحزن


فصل
وأما الكلف فهو من أسماء الحب أيضا يقال كلفت بهذا الأمر أي أولعت به فأنا كلف به قال الشاعر

فتعلمي أن قد كلفت بكم
ثم اصنعي ما شئت عن علم
وأصل اللفظة من الكلفة والمشقة يقال كلفه تكليفا إذا أمره بما يشق قال الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ومنه تكلفت الأمر تجشمته والكلفة ما يتكلف من نائبة أو حق والمتكلف المتعرض لما لا يعنيه قال الله تعالى قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين وقيل هو مأخوذ من الأثر وهو شيء يعلو الوجه كالسمسم والكلف أيضا لون بين السواد والحمرة وهي حمرة كدرة تعلو الوجه والاسم الكلفة
فصل

وأما التتيم فهو التعبد قال في الصحاح تيم الله أي عبدالله وأصله
من قولهم تيمه الحب إذا عبده وذلله فهو متيم ويقال تامته المرأة قال لقيط بن زرارة

تامت فؤادك لو يحزنك ما صنعت
إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا
فصل
وأما العشق فهو أمر هذه الأسماء وأخبثها وقل ما ولعت به العرب وكأنهم ستروا اسمه وكنوا عنه بهذه الأسماء فلم يكادوا يفصحوا به ولا تكاد تجده في شعرهم القديم وإنما أولع به المتأخرون ولم يقع هذا اللفظ في القرآن ولا في السنة إلا في حديث سويد بن سعيد وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى وبعد فقد استعملوه في كلامهم قال الشاعر
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا
سوى أن يقولوا إنني لك عاشق
نعم صدق الواشون أنت حبيبة
إلي وإن لم تصف منك الخلائق
قال في الصحاح العشق فرط الحب وقد عشقها عشقا مثل علم علما وعشقا أيضا عن الفراء قال رؤبة
ولم يضعها بين فرك وعشق ...


قال ابن السراج إنما حركه ضرورة وإنما لم يحركه بالكسر إتباعا للعين كأنه كره الجمع بين كسرتين فإن هذا عزيز في الأسماء ورجل عشيق مثل فسيق أي كثير العشق والتعشق تكلف العشق قال الفراء يقولون امرأة محب لزوجها وعاشق وقال ابن سيده العشق عجب المحب بالمحبوب يكون في عفاف الحب ودعارته يعني في العفة والفجور وقيل العشق الاسم والعشق المصدر وقيل هو مأخوذ من شجرة يقال لها عاشقة تخضر ثم تدق وتصفر قال الزجاج واشتقاق العاشق من ذلك وقال الفراء عشق عشقا وعشقا إذا أفرط في الحب والعاشق الفاعل والمعشوق المفعول والعشيق يقال لهذا ولهذا وامرأة عاشق وعاشقة قال
ولذ كطعم الصرخدي طرحته

عشية خمس القوم والعين عاشقه

وقال الفراء العشق نبت لزج وسمي العشق الذي يكون من الإنسان للصوقه بالقلب وقال ابن الأعرابي العشقة اللبلابة تخضر وتصفر وتعلق بالذي يليها من الأشجار فاشتق من ذلك العاشق وقد اختلف الناس هل يطلق هذا الاسم في حق الله تعالى فقالت طائفة من الصوفية لا بأس بإطلاقه وذكروا فيه أثرا لا يثبت وفيه فإذا فعل ذلك عشقني وعشقته وقال جمهور الناس لا يطلق ذلك في حقه سبحانه وتعالى فلا يقال إنه يعشق ولا يقال عشقه عبده ثم اختلفوا في سبب المنع على ثلاثة أقوال أحدها عدم التوقيف بخلاف المحبة الثاني أن العشق إفراط المحبة ولا يمكن ذلك في حق الرب تعالى فإن الله تعالى لا يوصف بالإفراط في الشيء ولا يبلغ عبده ما يستحقه من حبه فضلا أن يقال أفرط في حبه الثالث أنه مأخوذ من التغير كما يقال للشجرة المذكورة عاشقة ولا يطلق ذلك على الله سبحانه وتعالى


فصل
وأما الجوى ففي الصحاح الجوى الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن تقول منه جوي الرجل بالكسر فهو جو مثل دو ومنه قيل للماء المتغير المنتن جو قال الشاعر

ثم كان المزاج ماء سحاب
لا جو آجن ولا مطروق
فصل

وأما الدنف فلا تكاد تستعمله العرب في الحب وإنما ولع به المتأخرون وإنما استعملته العرب في المرض قال في الصحاح الدنف بالتحريك المرض الملازم رجل دنف أيضا يعني بفتح النون وامرأة دنف وقوم دنف يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع فإن قلت رجل دنف بكسر النون قلت امرأة دنفة أنثت وثنيت وجمعت وقد دنف المريض بالكسر ثقل وأدنف بالألف مثله وأدنفه المرض يتعدى ولا يتعدى فهو مدنف ومدنف قلت وكأنهم استعاروا هذا الاسم للحب اللازم تشبيها له به والله أعلم فصل وأما الشجو فهو حب يتبعه هم وحزن قال في الصحاح الشجو الهم والحزن يقال شجاه يشجوه شجوا إذا أحزنه وأشجاه يشجيه إشجاء إذا أغصه تقول منها جميعا شجي بالكسر يشجى شجى قال الشاعر
لا تنكروا القتل وقد سبينا

في حلقكم عظم وقد شجينا
أراد حلوقكم واشجى ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره ورجل شج أي حزين وامرأة شجية على فعلة فأطلق هذا الاسم على الحب للزومه كالشجى الذي يعلق بالحلق وينشب فيه
فصل

وأما الشوق فهو سفر القلب إلى المحبوب وقد وقع هذا الاسم في السنة ففي المسند من حديث عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فأوجز فيها فقيل له أوجزت يا أبا اليقظان فقال لقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله يدعو بهن اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحبني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وجاء في أثر إسرائيلي طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق وقد قال الله تعالى من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت قال بعض العارفين لما علم الله شوق المحبين إلى لقائه ضرب لهم موعدا للقاء تسكن به قلوبهم وبعد فهذه اللفظة من أسماء الحب قال في الصحاح الشوق والاشتياق نزاع النفس إلى الشيء يقال شاقني الشيء يشوقني فهو شائق وأنا مشوق وشوقني فتشوقت إذا هيج شوقك قال الراجز
يا دار مية بالدكاديك البرق

سقيا لقد هيجت شوق المشتأق
يريد المشتاق قال سيبويه همز ما ليس بمهموز ضرورة فصل واختلف في الفرق بين الشوق والاشتياق أيهما أقوى فقالت طائفة الشوق أقوى فإنه صفة لازمة والاشتياق فيه نوع افتعال كما يدل عليه بناؤه كالاكتساب ونحوه وقالت فرقة الاشتياق أقوى لكثرة حروفه وكلما قوي المعنى وزاد زادوا حروفه وحكمت فرقة ثالثة بين القولين وقالت الاشتياق يكون إلى غائب وأما الشوق فإنه يكون للحاضر والغائب والصواب أن يقال الشوق مصدر شاقه يشوقه إذا دعاه إلى الاشتياق إليه فالشوق داعية الاشتياق ومبداه والاشتياق موجبه وغايته فإنه يقال شاقني فاشتقت فالاشتياق فعل مطاوع لشاقني واختلف أرباب الشوق هل يزول الشوق بالوصال أو يزيد فقالت طائفة يزول فإن الشوق سفر القلب إلى المحبوب فإذا وصل إليه انتهى السفر
وألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قر عينا بالإياب المسافر
قالوا ولأن الشوق إنما يكون لغائب فلا معنى له مع الحضور ولهذا إنما يقال للغائب أنا إليك مشتاق وأما من لم يزل حاضرا مع المحب فلا يوصف بالشوق إليه وقالت طائفة بل يزيد بالقرب واللقاء واستدلوا بقول الشاعر

وأعظم ما يكون الشوق يوما
إذا دنت الخيام من الخيام
قالوا ولأن الشوق هو حرقة المحبة والتهاب نارها في قلب المحب وذلك مما يزيده القرب والمواصلة والصواب أن الشوق الحادث عند اللقاء والمواصلة غير النوع الذي كان عند الغيبة عن المحب قال ابن الرومي
أعانقها والنفس بعد مشوقة
إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاها كي تزول صبابتي
فيشتد ما ألقى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بي من الجوى
ليشفيه ما ترشف الشفتان
كأن فؤادي ليس يشفي غليله
سوى أن يرى الروحين تمتزجان
فصل
وأما الخلابة فهي الحب الخادع وهو الحب الذي وصل إلى الخلب وهو الحجاب الذي بين القلب وسواد البطن وسمى الحب خلابة لأنه يخدع ألباب أربابه والخلابة الخديعة باللسان يقال خلبه يخلبه بالضم واختلبه مثله وفي المثل إذا لم تغلب فاخلب أي فاخدع والخلبة الخداعة من النساء قال الشاعر
أودى الشباب وحب الخالة الخلبة


وقد برئت فما بالقلب من قلبه
قال ابن السكيت رجل خلاب أي خداع كذاب ومنه البرق الخلب الذي لا غيث فيه كأنه خادع ومنه قيل لمن يعد ولا ينجز إنما أنت برق خلب والخلب أيضا السحاب الذي لا مطر فيه ومنه الحديث إذا بايعت فقل لا خلابة أي لا خديعة والحب أحق ما يسمى بهذا الاسم لأنه يعمي ويصم ويخدع لب المحب وقلبه

فصل
وأما البلابل فجمع بلبلة يقال بلابل الحب وبلابل الشوق وهي وساوسه وهمه قال في الصحاح البلبلة والبلبال الهم ووسواس الصدر
فصل
وأما التباريح فيقال تباريح الحب وتباريح الشوق وتباريح الجوى وبرح به الحب والشوق إذا اصابه منه البرح وهو الشدة قال في الصحاح لقيت منه برحا بارحا أي شدة وأذى قال الشاعر
أجد هذا عمرك الله كلما
دعاك الهوى برح لعينيك بارح
ولقيت منه بنات برح وبني برح ولقيت منه البرحين والبرحين بكسر الباء وضمها أي الشدائد والدواهي
فصل


وأما السدم بالتحريك فهو الحب الذي يتبعه ندم وحزن قال في الصحاح السدم بالتحريك الندم والحزن وقد سدم بالكسر ورجل نادم سادم وندمان سدمان وهو إتباع وما له هم ولا سدم إلا ذاك
فصل

وأما الغمرات فهي جمع غمرة والغمرة ما يغمر القلب من حب أو سكر أو غفلة قال الله تعالى قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون أي في غفلة قد غمرت قلوبهم وقال تعالى فذرهم في غمرتهم حتى حين ومنه الماء الغمر الكثير الذي يغطي من دخل فيه ومنه غمرات الموت أي شدائده وكذلك غمرات الحب وهو ما يغطي قلب المحب فيغمره ومنه قولهم رجل غمر الرداء كناية عن السخاء لأنه يغمر العيوب أي يغطيها فلا يظهر مع السخاء عيب قال كثير
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا
غلقت لضحكته رقاب المال

وقال القطامي يصف سفينة نوح
إلى الجودي حتى صار حجرا
وكان لذلك الغمر انحسار

أي لذلك الماء الذي غمر الأرض ومن عليها فصل وأما الوهل فهو بتحريك الهاء وأصله الفزع والروع يقال وهل يوهل وهو وهل ومستوهل قال القطامي يصف إبلا
وترى لجيضتهن عند رحيلنا
وهلا كأن بهن جنة أولق
وإنما كان الوهل من أسماء الحب لما فيه من الروع ومنه يقال جمال رائع فإن قيل ما سبب روعة الجمال ولأي شيء إذا رأى المحب محبوبه فجأة يرتاع لذلك ويصفر لونه ويبهت قال الشاعر
وما هو إلا أن أراها فجاءة
فأبهت حتى لا أكاد أجيب
وكثير من الناس يرى محبوبه فيصفر ويرتعد قيل هذا مما خفي سببه على أكثر المحبين فلا يدرون ما سببه فقيل سببه أن الجمال سلطان على القلوب وإذا بدا راع القلوب بسلطانه كما يروعها الملك ونحوه ممن له سلطان على الأبدان فسلطان الجمال والمحبة على القلوب وسلطان الملوك على الأبدان فإذا كان السلطان الذي على الأبدان يروع إذا بدا فكيف بالسلطان الذي هو أعظم منه قالوا وأيضا فإن الجمال يأسر القلب فيحس القلب بأنه أسير ولا بد لتلك الصورة التي بدت له فيرتاع كما يرتاع الرجل إذا أحس بمن يأسره ولهذا إذا أمن الناظر من ذلك لم تحصل له هذه الروعة قال الشاعر
علامة من كان الهوى بفؤاده
إذا ما رأى محبوبه يتغير
فصل


وأما الشجن فهو من أسمائه فإن الشجن الحاجة حيث كانت وحاجة المحب أشد شيء إلى محبوبه قال الراجز
إني سأبدي لك فيما أبدي


لي شجنان شجن بنجد
وشجن لي ببلاد السند ...
والجمع شجون قال والنفس شتى شجونها ويجمع على أشجان قال الشاعر
تحمل أصحابي ولم يجدوا وجدي
وللناس أشجان ولي شجن وحدي
قد شجنتني الحاجة تشجنني شجنا إذا حبستك ووجه آخر أيضا وهو أن الشجن الحزن والجمع أشجان وقد شجن بالكسر فهو شاجن وأشجنه غيره وشجنه أي أحزنه والحب فيه الأمران هذا وهذا
فصل
وأما اللاعج فهو اسم فاعل من قولهم لعجه الضرب إذا آلمه وأحرق جلده قال الهذلي
ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا ...
ويقال هو لاعج لحرقة الفؤاد من الحب
فصل


وأما الاكتئاب فهو افتعال من الكآبة وهي سوء الحال والانكسار من الحزن وقد كئب الرجل يكأب كأبة وكآبة كرأفة ورآفة ونشأة ونشاءة فهو كئيب وامرأة كئيبة وكأباء أيضا قال الراجز
أو أن ترى كأباء لم تبر نشقي ...

واكتأب الرجل مثله ورماد مكتئب اللون إذا ضرب إلى السواد كما يكون وجه الكئيب والكآبة تتولد من حصول الحب وفوت المحبوب فتحدث بينهما حالة سيئة تسمى الكآبة
فصل
وأما الوصب فهو ألم الحب ومرضه فإن أصل الوصب المرض وقد وصب الرجل يوصب فهو وصب وأوصبه الله فهو موصب والموصب بالتشديد الكثير الأوجاع وفي الحديث الصحيح لا يصيب المؤمن من هم ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ووصب الشيء يصب وصوبا إذا دام تقول وصب الرجل على الأمر إذا داوم عليه قال الله تعالى ولهم عذاب واصب وقال تعالى وله الدين واصبا أي الطاعة دائمة
فصل


وأما الحزن فقد عد من أسماء المحبة والصواب أنه ليس من أسمائها وإنما هو حالة تحدث للمحب وهي ورود المكروه عليه وهو خلاف المسرة ولما كان الحب لا يخلو من ورود مالا يسر على قلب المحب كان الحزن من لوازمه
وفي الحديث الصحيح أن النبي كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال فاستعاذ من ثمانية أشياء كل شيئين منهما قرينان فالهم والحزن قرينان فإن ورود المكروه على القلب إ نكان لما مضى فهو الحزن وإن كان لما يستقبل فهو الهم والعجز والكسل قرينان فإن تخلف العبد عن كماله إن كان من عدم القدرة فهو العجز وإن كان من عدم الإرادة فهو الكسل والجبن والبخل قرينان فإن الرجل يراد منه النفع بماله أو ببدنه فالجبان لا ينفع ببدنه والبخيل لا ينفع بماله وضلع الدين وغلبة الرجال قرينان فإن قهر الناس نوعان نوع بحق فهو ضلع الدين ونوع بباطل فهو غلبة الرجال وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن أهل الجنة الخوف والحزن فلا يحزنون على ما مضى ولا يخافون مما يأتي ولا يطيب العيش إلا بذلك والحب يلزمه الخوف والحزن

فصل
وأما الكمد فمن أحكام المحبة في الحقيقة وليس من أسمائها ولكن المتكلمون في هذا الباب لا يفرقون بين اسم الشيء ولازمه وحكمه والكمد الحزن المكتوم تقول منه كمد الرجل فهو كمد وكميد والكمدة تغير اللون وأكمد القصار الثوب إذا لم ينقه
فصل
وأما اللذع فهو من أحكام المحبة أيضا وأصله من لذع النار يقال لذعته النار لذعا أحرقته ثم شبهوا لذع اللسان بلذع النار فقالوا لذعه بلسانه أي أحرقه بكلامه يقال أعوذ بالله من لواذعه فصل
وأما الحرق فهي أيضا من عوارض الحب وآثاره والحرقة تكون من الحب تارة ومنه قولهم مالك حرقة على هذا الأمر وتكون من الغيظ ومنه في الحديث تركتهم يتحرقون عليكم
فصل
وأما السهد فهو أيضا من آثار المحبة ولوازمها فالسهاد الأرق وقد سهد الرجل بالكسر يسهد سهدا والسهد بضم السين والهاء القليل النوم قال أبو كبير الهذلي
فأتت به حوش الجنان مبطنا
سهدا إذا ما نام ليل الهوجل
وسهدته أنا فهو مسهد
فصل
وأما الأرق فهو أيضا من آثار المحبة ولوازمها فإنه السهر وقد أرقت بالكسر أي سهرت وكذلك ائترقت على افتعلت فأنا أرق وأرقني كذا تأريقا أي سهرني فصل وأما اللهف فمن أحكامها وآثارها أيضا يقال لهف بالكسر يلهف لهفا أي حزن وتحسر وكذلك التلهف على الشيء وقولهم يا لهف فلان كلمة يتحسر بها على ما فات واللهفان المتحسر واللهيف المضطر


فصل
وأما الحنين فقال في الصحاح الحنين الشوق وتوقان النفس تقول منه حن إليه يحن حنينا فهو حان والحنان الرحمة تقول منه حن عليه يحن حنانا ومنه قوله تعالى وحنانا من لدنا وتحنن عيه ترحم والعرب تقول حنانك يا رب وحنانيك بمعنى واحد أي رحمتك قال امرؤ القيس

ويمنحها بنو شمجى بن جرم
معيزهم حنانك ذا الحنان

وقال طرفة
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وفي الحقيقة الحنين من آثار الحب وموجباته وحنين الناقة صوتها في نزاعها إلى ولدها وحنة الرجل امرأته قال
وليلة ذات دجى سريت
ولم تضرني حنة وبيت
قلت سميت حنة لأن الرجل يحن إليها أين كان
فصل

وأما الاستكانة فهي أيضا من لوازم الحب وأحكامه لا من أسمائه المختصة به وأصلها الخضوع قال الله تعالى فما استكانوا لربهم وما يتضرعون وقال تعالى فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا وأصلها استفعل من الكون وهذا الاشتقاق والتصريف يطابق اللفظ وأما المعنى فالمستكن ساكن خاشع ضد الطائش ولكن لا يوافق السكون تصريف اللفظة فإنه إن كان افتعل كان ينبغي أن يقال استكن لأنه ليس في كلامهم افتعال والحق أنه استفعل من الكون فنقلوا حركة الواو إلى الكاف قبلها فتحركت الواو أصلا وانفتح ما قبلها تقديرا فقلبت ألفا كاستقام والكون الحالة التي فيها إنابة وذل وخضوع وهذا يحمد إذا كان لله ويذم إذا كان لغيره ومنه الحديث أعوذ بك من الحور بعد الكور أي الرجوع عن الاستقامة بعد ما كنت عليها فصل وأما التبالة فهي فعالة من تبله إذا أفناه قال الجوهري تبلهم الدهر وأتبلهم إذا أفناهم قال الأعشى
أأن رأت رجلا أعشى أضر به

ريب الزمان ودهر متبل خبل
أي يذهب بالأهل والولد وتبله الحب أي أسقمه وأفسده قلت ومنه قول كعب بن زهير بن أبي سلمى
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيم عندها لم يفد مكبول
فصل

وأما اللوعة فقال في الصحاح لوعة الحب حرقته وقد لاعه الحب يلوعه والتاع فؤاده أي احترق من الشوق ومنه قولهم أتان لاعة الفؤاد إلى جحشها قال الأصمعي أي لائعة الفؤاد وهي التي كأنها ولهى من الفزع
فصل
وأما الفتون فهو مصدر فتنه يفتنه فتونا قال الله تعالى وفتناك فتونا أي امتحناك واختبرناك والفتنة يقال على ثلاثة معان أحدها الامتحان والاختبار ومنه قوله تعالى إن هي إلا فتنتك أي امتحانك واختبارك والثاني الافتتان نفسه يقال هذه فتنة فلان أي افتتانه ومنه قوله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة يقال أصابته الفتنة وفتنته الدنيا وفتنته المرأة وأفتنته قال الأعشى
لئن فتنتني ولهى بالأمس أفتنت
سعيدا فأضحى قد قلى كل مسلم

وأنكر الأصمعي أفتنته والثالث المفتون به نفسه يسمى فتنة قال الله تعالى إنما أموالكم وأولادكم فتنة وأما قوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين أي لم تكن عاقبة شركهم إلا أن تبرأوا منه وأنكروه وأما قوله تعالى يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم فقيل المعنى يحرقون ومنه فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته ودينار مفتون قال الخليل والفتن الإحراق قال الله تعالى يوم هم على النار يفتنون وورق فتين أي فضة محرقة وافتتن الرجل وفتن إذا اصابته فتنة فذهب ماله أو عقله وفتنته المرأة إذا ولهته وقوله تعالى فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم أي لا تفتنون على عبادته إلا من سبق في علم الله أنه يصلى الجحيم فذلك الذي يفتن بفتنتكم إياه وأما قوله تعالى فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون فقيل الباء زائدة وقيل المفتون مصدر كالمعقول والميسور والمحلوف والمعسور والصواب أن يبصر مضمن معنى يشعر ويعلم قال الله تعالى أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر فعدى فعل الرؤية بالباء وفي الحديث المؤمن أخو المؤمن يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان يروى بفتح الفاء وهو واحد وبضمها وهو جمع فاتن كتاجر وتجار والمقصود أن الحب موضع الفتون فما فتن من فتن إلا بالمحبة
فصل

وأما الجنون فمن الحب ما يكون جنونا ومنه قوله
قالت جننت بمن تهوى فقلت لها

ألعشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه
وإنما يصرع المجنون في الحين


وأصل المادة من الستر في جميع تصاريفها ومنه أجنه الليل وجن عليه إذا ستره ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه ومنه الجنة لاستتارها بالأشجار ومنه المجن لاستتار الضارب به والمضروب ومنه الجن لاستتارهم عن العيون بخلاف الإنس فإنهم يؤنسون أي يرون ومنه الجنة بالضم وهي ما استترت به واتقيت ومنه قوله تعالى اتخذوا أيمانهم جنة وأجننت الميت واريته في القبر فهو جنين والحب المفرط يستر العقل فلا يعقل المحب ما ينفعه ويضره فهو شعبة من الجنون فصل وأما اللمم فهو طرف من الجنون ورجل ملموم أي به لمم ويقال أيضا أصابت فلانا من الجن لمة وهو المس والشيء القليل قاله الجوهري قلت وأصل اللفظة من المقاربة ومنه قوله تعالى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وهي الصغائر قال ابن عباس رضي الله عنهما ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة رضي الله عنه إن العين تزني وزناها النظر واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والفم يزني وزناه القبل ومنه ألم بكذا أي قاربه ودنا منه وغلام ملم أي قارب البلوغ وفي الحديث إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم أي يقرب من ذلك وبالجملة فلا يستبين كون اللمم من أسماء الحب وإن كان قد ذكره جماعة إلا أن يقال إن المحبوب قد ألم بقلب المحب أي نزل به ومنه ألمم بنا أي انزل بنا ومنه قوله
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
فصل
وأما الخبل فمن موجبات العشق وآثاره لا من أسمائه وإن ذكر من أسمائه فإن أصله الفساد وجمعه خبول والخبل بالتحريك الجن يقال به خبل أي شيء من أهل الأرض وقد خبله وخبله واختبله إذا أفسد عقله أو عضوه ورجل مخبل وهو نوع من الجنون والفساد
فصل


وأما الرسيس فقد كثر في كلامهم رسيس الهوى والشوق ورسيس الحب فظن من أدخله في أماء الحب أنه منها وليس كذلك بل الرسيس الشيء الثابت فرسيس الحب ثباته ودوامه ويمكن أن يكون من رس الحمى ورسيسها وهو أول مسها فشبهوا رسيس الحب بحرارته وحرقته برسيس الحمى وكان الواجب على هؤلاء أن يجعلوا الأوار من أسماء الحب لأنه يضاف إليه قال الشاعر
إذا وجدت أوار الحب في كبدي

أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره
فمن لنار على الأحشاء تتقد
وقد وقع إضافة الرسيس إلى الهوى في شعر ذي الرمة حيث يقول
إذا غير النأي المحبين لم يكد
رسيس الهوى من حب مية يبرح
وفيه إشكال نحوي ليس هذا موضعه
فصل
وأما الداء المخامر فهو من أوصافه وسمي مخامرا لمخالطته القلب والروح يقال خامره قال الجوهري والمخامرة المخالطة وخامر الرجل المكان إذا لزمه وقد يكون أخذ من قولهم استخمر فلان فلانا إذا استعبده وكأن العشق داء مستعبد للعاشق ومنه حديث معاذ من استخمر قوما أي أخذهم قهرا وتملك عليهم فالحب داء مخالط مستعبد فصل وأما الود فهو خالص الحب وألطفه وأرقه وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة قال اجلوهري وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته والود والود والود المودة تقول بودي أن يكون كذا وأما قول الشاعر
أيها العائد المسائل عنا
وبوديك أن ترى أكفاني


فإنما أشبع كسرة الدال ليستقيم له البيت فصارت ياء والود الوديد بمعنى المودود والجمع أود مثل قدح وأقدح وذئب وأذؤب وهما يتوادان وهم أوداء والودود المحب ورجال ودداء يستوي فيه المذكر والمؤنث لكونه وصفا داخلا على وصف للمبالغة قلت الودود من صفات الله سبحانه وتعالى أصله من المودة واختلف فيه على قولين فقيل هو ودود بمعنى واد كضروب بمعنى ضارب وقتول بمعنى قاتل ونؤوم بمعنى نائم ويشهد لهذا القول أن فعولا في صفات الله سبحانه وتعالى فاعل كغفور بمعنى غافر وشكور بمعنى شاكر وصبور بمعنى صابر وقيل بل هو بمعنى مودود وهو الحبيب وبذلك فسره البخاري في صحيحه فقال الودود الحبيب والأول أظهر لاقترانه بالغفور في قوله وهو الغفور الودود وبالرحيم في قوله إن ربي رحيم ودود وفيه سر لطيف وهو أنه يحب التوابين وأنه يحب عبده بعد المغفرة فيغفر له ويحبه كما قال إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فالتائب حبيب الله فالود أصفى الحب وألطفه فصل وأما الخلة فتوحيد المحبة فالخليل هو الذي توحد حبه لمحبوبه وهي رتبة لا تقبل المشاركة ولهذا اختص بها في العالم الخليلان إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما كما قال الله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا وصح عن النبي أنه قال إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وفي الصحيح عنه لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الرحمن وفي الصحيح أيضا إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ولما كانت الخلة مرتبة لا تقبل المشاركة امتحن الله سبحانه إبراهيم الخليل بذبح ولده لما أخذ شعبة من قلبه فأراد سبحانه أن يخلص تلك الشعبة له ولا تكون لغيره فامتحنه بذبح ولده والمراد ذبحه من قلبه لا ذبحه بالمدية فلما أسلما لأمر الله وقدم محبة الله تعالى على محبة الولد خلص مقام الخلة وفدى الولد بالذبح
وقيل إنما سميت خلة لتخلل المحبة جميع أجزاء الروح قال

قد تخللت مسلك الروح مني
وبذا سمي الخليل خليلا
والخلة الخليل يستوي فيه المذكر والمؤنث لأنه في الأصل مصدر قولك خليل بين الخلة والخلولة قال
ألا أبلغا خلتي جابرا
بأن خليلك لم يقتل
ويجمع على خلال مثل قلة وقلال والخل الود والصديق والخلال أيضا مصدر بمعنى الخالة ومنه قوله تعالى لا بيع فيه ولا خلال وقال في الآية الأخرى لا بيع فيه ولا خلة قال امرؤ القيس
ولست بمقلي الخلال ولا قالي ...
والخليل الصديق والأنثى خليلة والخلالة والخلالة والخلالة بكسر الخاء وفتحها وضمها الصداقة والمودة قال
وكيف تواصل من أصبحت
خلالته كأبي مرحب
وقد ظن بعض من لا علم عنده أن الحبيب أفضل من الخليل وقال محمد حبيب الله وإبراهيم خليل الله وهذا باطل من وجوه كثيرة منها إن الخلة خاصة والمحبة عامة فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقال في عباده المؤمنين يحبهم ويحبونه ومنها أن النبي نفى أن يكون له من أهل الأرض خليل وأخبر أن أحب النساء إليه عائشة ومن الرجال أبوها ومنها أنه قال إن الله اتخذني وخليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ومنها أنه قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته


فصل
وأما الخلم فهو مأخوذ من المخالمة وهي المصادقة والمودة والخلم الصديق والأخلام الأصحاب قال الكميت

إذا ابتسر الحرب أخلامها
كشافا وهيجت الأفحل
فصل


وأما الغرام فهو الحب اللازم يقال رجل مغرم بالحب أي قد لزمه الحب وأصل المادة من اللزوم ومنه قولهم رجل مغرم من الغرم أو الدين قال في الصحاح والغرام الولوع وقد أغرم بالشيء أي أولع به والغريم الذي عليه الدين يقال خذ من غريم السوء ما سنح ويكون الغريم أيضا الذي له الدين قال كثير عزة
قضى كل ذي دين فوفى غريمه

وعزة ممطول معنى غريمها
ومن المادة قوله تعالى في جهنم إن عذابها كان غراما والغرام الشعر! الدائم اللازم والعذاب قال بشر
ويوم النسار ويوم الجفا
ركانا عذابا وكانا غراما
وقال الأعشى
إن يعاقب يكن غراما وإن يع
ط جزيلا فإنه لا يبالي
وقال أبو عبيدة إن عذابها كان غراما كان هلاكا ولزاما لهم وللطف المحبة عندهم واستعذابهم لها لم يكادوا يطلقون عليها لفظ الغرام وإن لهج به المتأخرون
فصل
وأما الهيام قال في الصحاح هام على وجهه يهيم هيما وهيمانا ذهب من العشق أو غيره وقلب مستهام أي هائم والهيام بالضم أشد العطش والهيام كالجنون من العشق والهيام داء يأخذ الإبل فتهيم لا ترعى يقال ناقة هيماء قال والهيام بالكسر الإبل العطاش الواحد هيمان وناقة هيمى مثل عطشان وعطشى وقوم هيم أي عطاش وقد هاموا هياما وقوله تعالى فشاربون شرب الهيم هي الإبل العطاش قلت جمع أهيم هيم مثل أحمر وحمر وهو جمع فعلاء أيضا كصفراء وصفر


فصل
وأما التدليه ففي الصحاح التدليه ذهاب العقل من الهوى يقال دلهه الحب أي حيره وأدهشه ودله هو يدله قال أبو زيد الدلوه الناقة لا تكاد تحن إلى إلف ولا ولد وقد دلهت عن إلفها وعن ولدها تدله دلوها

فصل
وأما الوله فقال في الصحاح الوله ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد ورجل واله وامرأة واله ووالهة قال الأعشى
فأقبلت والها ثكلى على عجل
كل دهاها وكل عندها اجتمعا
وقد وله يوله ولها وولهانا وتوله واتله وهو افتعل أدغم
قال الشاعر
واتله الغيور ...


والتوليه أن يفرق بين الأم وولدها وفي الحديث لا توله والدة بولدها أي لا تجعل والها وذلك في السبايا وناقة واله إذااشتد وجدها على ولدها والميلاه التي من عادتها أن يشتد وجدها على ولدها صارت الواو يا لكسرة ما قبلها وماء موله وموله أرسل في الصحراء فذهب وقول رؤبة
به تمطت غول كل ميلة

بنا حراجيج المهارى النفة
أراد البلاد التي توله الإنسان أي تحيره

فصل
وأما التعبد فهو غاية الحب وغاية الذل يقال عبده الحب أي ذلله وطريق معبد بالأقدام أي مذلل وكذلك المحب قد ذلله الحب ووطأه ولا تصلح هذه المرتبة لأحد غير الله عز و جل ولا يغفر الله سبحانه لمن أشرك به في عبادته ويغفر ما دون ذلك لمن شاء فمحبة العبودية هي أشرف أنواع المحبة وهي خالص حق الله على عباده وفي الصحيح عن معاذ أنه قال كنت سائرا مع رسول الله فقال يا معاذ فقلت لبيك يا رسول الله وسعديك قال ثم سار ساعة ثم قال يا معاذ قلت لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة فقال يا معاذ قلت لبيك رسول الله وسعديك قال أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم بالنار وقد ذكر الله سبحانه رسوله بالعبودية في أشرف مقاماته وهي مقام التحدي ومقام الإسراء ومقام الدعوة فقال في التحدي وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وقال في مقام الإسراء سبحان الذي أسرى بعيده ليلا من المسجد الحرام وقال في مقام الدعوة وأنه لما قام عبدالله يدعوه وإذا تدافع أولو العزم الشفاعة الكبرى يوم القيامة يقول المسيح لهم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فنال ذلك المقام بكمال العبودية لله وكمال مغفرة الله له فأشرف صفات العبد صفة العبودية وأحب أسمائه إلى الله اسم العبودية كما ثبت عن النبي أنه قال أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة وإنما كان حارث وهمام أصدقها لأن كل أحد لا بد له من هم وإرادة وعزم ينشأ عنه حرثه وفعله وكل أحد حارث وهمام وإنما كان أقبحها حرب ومرة لما في مسمى هذين الإسمين من الكراهة ونفور العقل عنهما وبالله التوفيق



الباب الثالث في نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض هل هي بالترادف أو التباين
فالأسماء الدالة على مسمى واحد نوعان أحدهما أن يدل عليه باعتبار الذات فقط فهذا النوع هو المترادف ترادفا محضا وهذا كالحنطة والقمح والبر والإسم والكنية واللقب إذا لم يكن فيه مدح ولا ذم وإنما أتي به لمجرد التعريف والنوع الثاني أن يدل على ذات واحده باعتبار تباين صفاتها كأسماء الرب تعالى وأسماء كلامه وأسماء نبيه وأسماء اليوم الآخر فهذا النوع مترادف بالنسبة إلى الذات متباين بالنسبة إلى الصفات فالرب والرحمن والعزيز والقدير والملك يدل على ذات واحدة باعتبار صفات متعددة وكذلك البشير والنذير الحاشر والعاقب والماحي وكذلك يوم القيامة ويوم البعث ويوم الجمع ويوم التغابن ويوم الآزفة ونحوها وكذلك القرآن والفرقان والكتاب والهدى ونحوها وكذلك أسماء السيف فإن تعددها بحسب أوصاف وإضافات مختلفة كالمهند والعضب الصارم ونحوها وقد عرفت تباين الأوصاف في أسماء المحبة وقد أنكر كثير من الناس الترادف في اللغة وكأنهم أرادوا هذا المعنى وأنه ما من إسمين لمسمى واحد إلا وبينهما فرق في صفة أو نسبة أو إضافة سواء علمت لنا أو لم تعلم وهذا الذي قالوه صحيح باعتبار الواضع الواحد ولكن قد يقع الترادف باعتبار واضعين مختلفين بسمى أحدهما المسمى باسم ويسميه الواضع الآخر باسم غيره ويشتهر الوضعان عند القبيلة الواحدة وهذا كثير ومن ههنا يقع الاشتراك أيضا فالأصل في اللغة هو التباين وهو أكثر اللغة والله أعلم

ليست هناك تعليقات: