المشاركات الشائعة

الجمعة، 10 ديسمبر 2010

هذيان المنسيات الإيروتيكي
فاروق يوسف



1


لا يُرى الجسد العاري إلا وحيدا. عزلته فضاء محتمل يعمي المحيط بغلالة من نور، تصدر عنه. لا نظرة "اولمبيا" مانيه كانت فاحشة بقدر ما كانت متحدية، ولا زخارف غوستاف كليمت زادت الجسد غموضا حين أذابته وأخفته بغنج. الجسد، ذلك المكان المحمي بعبقرية طهره وقدسية مغزاه، كانت بداهة نسيانه دائما أقوى من كل محاولة لتوثيق المعرفة التي تنتج منه. حين لجأ الفرنسي ايف كلاين الى تسجيل لحظات ارتطام أجساد نسائه المصبوغة بالازرق بسطح اللوحة الأبيض المرمي على الارض، إنما كان يرغب في أن يمحو بفرار اولئك النسوة كثافة حضورهن المتخيل. أراد أن ينسج وهماً مرتبكا مضافا ليس إلا. عاريات كلاين لم يتركن على قماش اللوحة إلا ما يزيد من غموضهن، مثل طائر أطلقته يد ساحر، فلا الطائر علق بالهواء الواقعي ولا يد الساحر ظلت مبسوطة لكي تستعيده، فيما الطائر لا يزال مثلما هو يخفق بجناحيه محرّكا الهواء بين أهداب من كانوا شهودا لمعجزته. بالقوة نفسها لن يكون عري الجسد في حفلات كلاين صفة. هذيان ذلك الجسد هو ما يؤكد واقعيته الملتبسة. كان كلاين، ككل فنان يحتفي بانعتاق حدسه، يحيط افعاله بأبهة الشك والضجر والندم. بعكس الحال التي كان عليها الاميركي أندي وارهول، حيث كان طموحه الايقوني يسد في طريقه سبل الغزل الايروتيكي بالجسد. كان وارهول بطريقة أو بأخرى ينصب الصلبان لكل ما تقع عليه يداه: ماريلين مونرو أو علبة حساء أو الزعيم الصيني ماو. وارهول هو نوع من صنّاع الماضي المحتفى به، ولم يكن ذلك الفنان المولع بالسلطة مستعدا لتعريض ذلك الماضي أو اي جزء منه للنسيان. لذلك لم يهتم بجسد مونرو، وهي التي اتخذ منها غير مصوّر موديلا عاريا. ومن يرى الان صور مونرو تلك وهي عارية، لا بد أن تذهله براءة تحيط بجسدها كما لو أنها تحاول أن تمزج ذلك الجسد ببياض النسيان. مونرو في الصور هي غير نجمة الاغراء التي انتهت الى اليأس. الجسد العاري إذاً هو غير صفته التي تسعى الى ان تكون مصيدة لفكرة، غالبا ما تكون خليعة، وهي فكرة تخون الجمال، لأنها تهتم بمادته ولا تهتم بأثره المدوي.


2


فن الجسد صار احتفالا مكرّسا في الغرب، وموضوعا يشكل الناس العاديون مادته. في الـ"ساونا" الفنلندية على سبيل المثال، لا يسمح هنا للأفراد بالدخول، فالحضور ينبغي أن يكون جماعيا، ذلك لأن طقس العري ليس حفلا للفرجة. الموقف المناوئ للغرباء لا يمليه هنا موقف اخلاقي متزمت ومبيت، بل هو تعبير عن الالتزام لاطمئنان الجسد الى أنه سيكون منسيا، وهو اطمئنان يتيح له حرية أن يكون عاريا، من غير أن يكون موضع رقابة غريبة عنه. الـ"ساونا" الفنلدنية صورة أخرى عن الحمام التركي لكن بشروط مختلفة. ولع الرسوم الاستشراقية بحضور الجسد الشرقي كان مدعاة لغزل الكثيرين وولههم. في تلك الرسوم هناك استعراض مشكوك في امره، فضاؤه الجسد ومسافته الغيرة، هو ما دفع الكثيرين الى الشعور بالريبة ازاء واقعية تلك الصور. في الـ"ساونا" الفنلندية الان، في بلد متحرر كأسوج، لا يسمح لعيون الغرباء بتخيل استعراض لاجساد عارية. ترى كيف كان ذلك مسموحا به في مصر (على سبيل المثال) قبل قرن؟ يعكف الاطمئنان بالجسد العاري على إلهامه ولا يشظي ذلك الإلهام مثلما تفعل العين الرقيبة، التي تجد في عري الجسد مساحة لالهامها الايروتيكي، في وقت يفقد الجسد قدرته على أن يرتقي بوجوده الى المستوى الذي يحقق شروط إلهامه. الموديل العاري هو مثال بارز على الغياب القسري للالهام. صورة الجسد ليست الجسد، هي صفته وهو في حال ذهول عن أعماقه. ما نراه من الجسد ونحن في موقع الرقابة، ليس الجسد في بداهة تكوينه بل خوفه من أن يكون متاحا وعموميا.


3

ما الذي نراه في الجسد، لا منه؟ التمثال أم فكرته؟ المرآة أم شعاعها؟ نقاء الخط لدى ادغار ديغا يهب أجساد راقصاته حيزا مفتوحا على المطلق، كما لو أن ديغا، رساما ونحاتا على حد سواء، قرر أن يصف الملائكة، بجمل لا تخطئ ولا يهز الارتباك كلماتها، ليكون لتلك الجمل الصافية وقع التماهي مع الغيب. رسوم ديغا تترك المتلقي في حال من الخدر البصري الذي لا يقبل الاستفهام أو المراجعة. الامر نراه مقلوبا لدى رسّام معذّب بإلهامه الشبقي مثل تولوز لوتريك، حيث تفصح تقنيته عن امتزاج الجسد بالنظر اليه من جهة حسية. فتياته لا يسعين إلى الكمال برقتهن المبالغ في ابتذالها، بل يتماهين من خلال استعراضية فاحشة وأنيقة في الوقت نفسه مع ولع العين المتكلفة. في الحالين لا نرى الجسد إلا ملغوما بالوهم (هل أقول الكذبة؟) التي أهدر الرسام من أجلها حياته. رسوم كانت بمثابة تعليق على الجسد، تعليق يصفه وفي الوقت نفسه يرجئه.


4

غزل المصوّر المعاصر بالجسد، فيه الكثير من العذرية والبراءة، كما لو أن مياه الـ"ساونا" تسيل بعذوبة من بين ثنياته. هناك لعبة تجري بعيدا عن ادعاء العفوية أو التلقائية. لعبة تديرها العين الثالثة وهي تستضيف الجسد في حضرة فكرتها عنه. عين العدسة التي هي عين خيال لا تعتريه الشهوة، يفتنها الجسد البشري مثلما يفعل أي كيان جمالي عاكف على انسجام عناصر تشنجه غير المرئية: الشجرة، الحصاة، الغيمة، الصحراء. حياة كامنة لا يمكن فصلها عن خيالها الممزوج بذراتها، هي في الحقيقة حياة متخيلة استهوتها لحظة ظهور. الجسد من خلال عين العدسة هو مزاج الخطيئة الصافية وقد تجلى عابرا. بكثرته وقلته، بسعته وضيقه، بفقره وثرائه، بكآبته ومسرته، بحضوره وغيابه، بليونته وصلابته، بتفجره وصمته، بعفته وفجوره، بغموضه ووضوحه، بتشعبه ويسره، بخفته وثقله، وسواها من الصفات المتناقضة التي لا تستبدل وجودها البديهي بالمعاني الرمزية، التي اتخذ منها الرسامون أقنعة لوجود صارت الرسوم تقترحه. ها هو الفوتوغراف يعيدنا مرة أخرى الى الحقيقة، لا الى أشباحها. وهي الاشباح التي استطاع الرسم من خلالها أن يصنع اسطورة الجسد التي هي مرآة لامراضنا. لقد اعترض التصوير الفوتوغرافي في بداياته طريق الرسم فظهرت الانطباعية وها هو اليوم يضع الرسم في منطقة مضطربة جديدة، حين يذكّره بالجسد، في صفته موقع غرامه المنسي. علينا أن نتذكر أول دروس الرسم، حيث كان جسد تلك الالهة الاغريقية واقفا أمامنا صامتا.


5

لماري الين ستروم أسلوب فريد في استعادة خيال الجسد، في الصنيع الفني التي تشعر أن آخر قد سبقها إليه. إنها تعيد انتاج ذلك الصنيع واقعيا من خلال احضار الجسد الذي تخيله، لتؤثث الواقع به، فتجعل من ذلك الصنيع فكرة عيش محتملة. عملها يستند إلى مهارة مقلوبة. فهي تستخرج نساء رينوار العاريات، على سبيل المثال، من لوحاته لتهبهنّ حياة، هي الأخرى تتحول الى مصدر خيال من خلال الصور الفوتوغرافية. ستروم، هنا، تجهز لرينوار مفردات عمله، كما لو أنه يستعد للرسم. إنها خادمته التي حضرت بعدما استهلك حياته سعيدا ومضى الى الموت.
خيال مقلوب يمتد بفضاء الصنيع الاصلي والجسد معا خارج زمنهما. فما من لوحة تشبه أخرى وما من امرأة تشبه امرأة أخرى. لذا، فإن نساء ستروم لسن نساء رينوار. إنهن يقمن بأداء أدوارهن بعد انتهاء العرض. لا يتشبهن بقدر ما يسعين الى التسامي بلحظة الخلق الجمالي لتكون لحظة ترجمة لا لحظة اقتباس. جمالهن ليس رينوارياً بل هو صناعة مخادعة. ربما رغبت ستروم في تخيّل نساء رينوار في صفتهن نماذج (موديلات) للرسم، غير أنها سعت الى التعريف بهن، في صفتهن كائنات ما زلن على قيد الحياة. في هذا المعنى فإنها لا تستعير من رينوار نساءه، إنما فكرته عن جمال لا يتعرض للاذابة بفعل الزمن. جمال يتكرر مثل خطأ لين. في كل مرة يكون آخر. لا بد أن نساء ستروم قد شعرن بالسعادة وهنّ يقفن أو يجلسن أمام عدسة كاميرتها في مشهد تمثيلي يسافر بهن بين العصور في صفتهن ربات جمال، غير أن ماري الين ستروم هي الأكثر سعادة من بينهن، ذلك لأنها من خلالهن استعادت لحظة خلق تمنت لو أن الآخرين لم يسبقوها إليها. بين يدي هذه الفنانة يتخذ الجسد هيئته المطلقة: فكرة حياة ممكنة أبدا.


6

فرنشيسكا وودمان (1958 - 1981) ولدت في كولورادو بالولايات المتحدة، غير أنها التقطت أجمل صورها واكثرهن تعبيرا وعمقا وضراوة في روما، يوم عادت الى بلدها العائلي عام 1977. المحيط الرثّ والمتداعي كان يذكّر بسينما الواقعية الايطالية، غير انها لم تتخذ من ذلك المحيط خلفية لمشاهدها التي يغلب عليها طابع الحيطة، حيث تحضر التلقائية من جهة كونها فعلا مدبّرا في سياق المعنى. فرنشيسكا لا تلتقط صورها بالصدفة، وهي لا تدّعي البراءة في ما تفعله. إنها ترسم وتخطط وتصنع وتنسج وتؤلف، غير أنها في كل ما تفعل، تبقي قدراً هائلاً من التوتر، هو مصدر الاحساس بالمباغتة، وهو احساس من شأنه أن يبقي لحظة الخلق لينة وطرية وطازجة، كما لو أنها أفلتت لتوها من زمنها المحتدم. صورها هي عبارة عن يوميات انثى عابرة، من غير أن تلتفت الى محيطها الذي لا يزال يرافقها مثل ندم سابق. نساء فرنشيسكا وحيدات يمتزجن بالطبيعة، في محاولة لاعادة اسطورة الخصب الذاهل عن ارادته في خضم السلطة الذكورية. هذه الفنانة لا تسعى الى اعادة حواء بغواياتها الى الواجهة، بقدر ما تسعى الى ابتكار انثاها المضادة، الانثى التي لا تمارس الغواية، إنما التي هي ضحية وحدةٍ يقترحها سوء الفهم. عري نسائها، وهو فعل لا علاقة له بمفهوم الحشمة (لا يعترض عليه ولا يذكّر به ذلك لانه لا يدنو منه)، لا يستحضر تفاصيل الجسد ولا يستعرض فتنته، بل يتلوه ليذكّر به. فرنشيسكا الحاذقة في الحذف، المتمرسة في الزهد، تصل بأجساد نسائها الى مرحلة نقاء صلب، ازاءها يكون كل تفكير ايروتيكي في حالة غيبوبة. حين ألقت بنفسها من النافذة في مانهاتن، صنعت نموذجا للحقيقة التي طالما صنعتها خياليا: المرأة الوحيدة الملقاة ميتة على اسفلت الشارع. هل صنعت فرنشيسكا صورها من أجل التمهيد لنهايتها المأسوية؟ هناك صورة واحدة فقط من بين العشرات من صورها، هي الصورة الوحيدة التي رأيت فيها ابتسامة، ويا لرقة تلك الابتسامة، يا لنضارتها وسط يباس الفقر وخشونته! لم تكن فرنشيسكا لتصور نساءها إلا وهنّ في حالة غياب كامل عن أجسادهن. عري تلك الأجساد لم يكن عريا معدّاً لنزهة الابصار. من طريق ذلك التغييب كانت تقطع الطريق امام أي سوء فهم محتمل. في منزل يحترق، لا يفكر المرء بالعري، حين ينقذ امراة عارية. هناك معنى مختلف للانتصار تنجزه بداهة اللحظة المتعففة والمزهوة ببطولتها. غالبا ما تصور فرنشيسكا نساءها وهنّ محلقات أو ممتزجات بالطبيعة أو راقدات بطريقة غامضة لا تنبئ بحياة من نوع ما. لديها امرأة تغطي اجزاء من جسدها بورق الجدران، فيما الجدران من خلفها تحتاج الى الترميم أكثر مما تحتاج الى التزيين. صورة صُنعت لاغراض رمزية ليس إلا. كما التقطت فرنشيسكا سلسلة من الصور تحت عنوان "المرأة والسمكة"، كانت عبارة عن هذيان ينزلق على موسيقى مصير غامض، يطوي عنصرَي الحكاية بأسفه. حزن صورها الشفاف كان تمهيدا لنهايتها، وهي نهاية امرأة أعدت لجسدها (في صفته خيالا لانوثة مطلقة) مكائد لا تزال حتى هذه اللحظة مصدر إلهام لجيل من المصورين.

ليست هناك تعليقات: