المشاركات الشائعة

الجمعة، 24 ديسمبر 2010

فصل من رواية
موسم الهجرة إلى الشمال
الطيب صالح



وقفت عند باب دار جدي في الصباح - باب ضخم عتيق من خشب الحراز، لا شك أنه استوعب شجرة كاملة، صنعه ود البصير، مهندس القرية الذي لم يتعلم النجـارة في مدرسة، كما كان يصنع عجلات السواقي وحلقاتها، وأيضاً يجبر العظام، ويكوي ويحجم ، ويتخصص كذلك في نقد الحمير، قل أن يشتري أحد من أهل البلد حمارة دون مشورته. ود البصير لا يزال حياً إلى يومنا هذا، ولكنه لم يعد يصنع مثل باب بيت جدي، بعد أن اكتشفت الأجيال اللاحقة من أهل البلد أبواب خشب الزان وأبواب الحديد، يجلبونها من أم درمان. والسواقي أيضاً. بار سوقها حين جاءت مكنات الماء. وسمعتهم يقهقهون، فميزت ضحكة جدي النحيلة الخبيثة المنطلقة حين يكون على سجيته، وضحكة ود الريس التي تخرج من كرش مملوء بالطعام دائماً، وضحكة بكري التي تأخذ لونها وطعمها من المجلس الذي يكون موجوداً فيه، وضحكت بنت مجذوب القوية المسترجلة. تخيلت جدي جالساً على فروة صلاته وفي يده مسبحته من خشب الصندل، تدور في حركة دائبة كقواريس الساقية. وبنت مجذوب وود الريس وبكري، أصدقاؤه القدامى، يجلسون على تلك الأسرِّة الوطيئة، التي لا تعلو أرجلها عن الأرض أكثر من شبرين. ارتفاع السرير عن الأرض، في زعم جدي، من الغرور، وقصره من التواضع.. بنت مجذوب متكئة على كوعها ، وفي اليد الأخرى سيجارة. ود الريس كأنه يخرج الحكايات الخبيثة من أطراف شاربيه. وبكري يجلس وحسب. هذه الدار الكبيرة ليست من الحجر ولا الطوب الأحمر، ولكنها من الطين نفسه الذي يزرع فيه القمح، قائمة على أطراف الحقل تماماً ، تكون امتداداً له. وهذا واضح من شجيرات الطلح والسنط النامية في فناء الدار والنباتات التي نمت في الحيطان نفسها حيث تسرب إليها المـاء من الأرض المزروعة. وهي دار فوضى قائمة دون نظام، اكتسبت هيئتها هذه على مدى أعوام طويلة: غرف كثيرة مختلفة الأحجام، بنيت بعضها لصق بعض في أوقات مختلفة، أما حسب الحاجة إليها أو لأن جدي توفر له شيء من المال لم يجد وسيلة أخرى ينفقه فيها. غرف يؤدي بعضها إلى بعض، بعضها لها أبواب وطيئة لابد أن تنحني كي تدخلها وبعضها ليس لها أبواب إطلاقاً، بعضها لها نوافذ كثيرة، وبعضها ليست لها نوافذ. حيطانها ملساء مطلية بمادة هي خليط من الرمـل الخشن والطين الأسود وزبالة البهائم، وكذلك السطوح، والأسقف من جذع النخيل وخشب السنط وجريد النخيل. دار متاهة، باردة في الصيف، دافئة في الشتاء. إذا نظرت إليها من الخارج، دون عطف، أحسست بها كياناً هشاً لن يقوى على البقاء، ولكنها تغالب الزمن بشيء كالمعجرة .
دخلت من باب الحوش، ونظرت إلى اليسار واليمين في الفناء الواسع. هنالك تمر نشر على بروش ليجف. وهنالك بصل وشطة. وهنالك أكياس قمح وفول وبعضها خيطت أفواهه وبعضها مفتوح. وفي ركن عنز تأكل شعيراً وترضع مولوداً. هذه الدار مصيرها مرتبط بمصير الحقل، إذا اخضر الحقل اخضرت، وحين يجتاح القحط الحقول يجتاحها هي أيضاً. وأشم تلك الرائحة التي يمتاز بها بيت جدي، خليط من روائح متناثرة، ورائحة البصل والشطة والتمر والقمح والفول واللوبية والحلبة، أضف إليها رائحة البخـور الذي يعبق دائمـاً في مجمر الفخار الكبير. رائحة تذكرني بتقشف جدي في العيش، وترفه في لوازم صلاته. الفروة التي يصلي عليها، وحين يشتد البرد يستعملها غطاء، عبارة عن جلود ثلاثة نمور مخيطة في جلد واسع. وإبريق الصلاة من النحاس عليه تصاوير ونقوش، وله طشت من نحاس أيضاً. وهو يفتخر خاصة بمسبحته لأنها من خشب الصندل، يداعب حباتها، ويمسح بها وجهه ويستنشق رائحتها. وكان إذا غضب من أحد أحفاده، ضربه بها على رأسه، يقول إن ذلك يطرد الشيطان. وهذه الأشياء جميعاً، مثل غرف داره، والنخل في حقله، لها تاريخ قصه على جدي مراراً وتكراراً، في كل مرة يحذف شيئاً ويضيف شيئاً.
وتمهلت عند باب الغرفة وأنا أستمريء، ذلك الإحساس العذب الذي يسبق لحظة لقائي مع جدي كلما عدت من السفر. إحساس صاف بالعجب من أن ذلك الكيان العتيق ما يزال موجوداً أصلاً على ظاهر الأرض. وحين أعانقه أستنشق رائحته الفريدة التي هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة، ورائحة الطفل الرضيع . وذلك الصوت النحيل المطمئن، يقوم جسراً بيني وبين الساعة القلقة التي لم تتشكل بعد، الساعات التي استوعبت أحداثها ومضت، وأصبحت لبنات في صرح له مدلولات وأبعاد نحن بمقاييس العالم الصناعية الأوربي، فلاحون فقراء ، ولكنني حين أعانق جدي أحس الغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه. أنه ليس شجرة سنديان شامخة وارفة الفروع في أرض منت عليها الطبيعة بالماء والخضب ـ ولكنه كشجيرات السيال في صحاري السودان، سميكة اللحي حادة الأشواك، تقهر الموت لأنها لا تسرف في الحياة. وهذا وجه العجب. أنه عاش أصلاً - رغم الطاعون والمجاعات والحروب وفساد الحكام. وها هو ذا الآن يقترب من عامة المائة، أسنانه جميعاً في فمه، عيناه صغيرتان باهتتان تحسب أنهما لا يريان ولكنه ينظر بهما في حلكة الليل، جسمه الضئيل منكمش على ذاته، عظام وعروق وجلد وعضلات، وليست فيه قطعة واحدة من الشحم، يقفز فوق الحمار نشيطاً، ويمشي في غبش الفجر من بيته إلى الجامع .
مسح جدي بطرف ثوبه الدمع الذي سال على وجهه من شدة الضحك، وبعد أن أمهلوني ريثما أستقر في مجلسي معهم، قال جدي: " والله حكايتك حكاية يا ود الريس ". وكان هذا إيذاناً لود الريس بأن يستمر في القصة التي قطعها دخولي عليهم. " وبعد، يا حاج أحمد، أركبت البنت أمامي على الحمار وهي تفلفص وتتلوى وبالقوة جردتها من جميع ثيابها حتى أصبحت عارية كما ولدتها أمها، كانت فرخة عديلة من جواري بحري بلغت توها - النهد يا حاج أحمد كأنه طبنجة والكفل إذا طوقته بذراعيك لا تصل حده. وكانت مدهنة ومدلكة جلدها يلمع في ضوء القمر وعطرها يدوخ العقل. ونزلت بها إلى منطقة رملية وسط الذرة ولما قمت عليها سمعت حركة في الذرة وصوتاً يقول: من هناك؟ يا حاج أحمد، جنون الشباب ليس مثله جنون. فكرت بسرعة. وعملت أنني عفريت. وأخذت أصرخ بأصوات شيطانية وأنثر الرمل وابرطع، فذعر الرجل وهرب. إنما النكتة أن عمي عيسى كان قد تقفى أثري منذ خطفت الجارية من بيت العرس حتى وصلنا إلى بقعة الرمل. ولما رأي أنني عملت عفريت وقف يتفرج. وثاني يوم في الصباح الباكر ذهب إلى والدي رحمة الله عليه وقص عليه القصة كلها، وقال له: ابنك هذا شيطان رجيم، إذا لم نجد له زوجة في هذا النهار أفسد البلد وسبب لنا الفضائح لا أول لها ولا آخر . وفعلاً عقدوا لي في نفس اليوم على بنت عمي رجب. الله يرحمها ، ماتت في أول ولادة ". وقالت له بنت مجذوب وهي تضحك بصوتها الرجالي المبحوح من كثرة التدخين: " ومن يومها وأنت تركب وتنزل كأنك فحل الحمير " .
فقال لها ود الريس: " هل أحد يعرف حـلاوة هذا الشيء أكثر منك يا بنت مجذوب؟ انك دفنت ثمانية أزواج، والآن وأنت عجوز كركبة لو وجدته لما قلت لا ". وقال جدي: " سمعنا أن غنج بنت مجذوب شيء لا يتصوره العقل " .
وأشعلت بنت مجذوب سيجارة وقالت: عليّ الطلاق يا حاج أحمد، كنت حين يرقد زوجي بين فخذي أصرخ صراخاً تجفل منه البهائم المربوطة في مراحها في الساقية ". وكان بكري قبل ذلك يضحك ولا يقول شيئاً، فقال: " حديثنا يا بنت مجذوب. أي أزواجك كان أحسن؟ " فقالت بنت مجذوب على الفور: " ود البشير " فقال بكري: " ود البشير الكحيان التعبان؟ كانت العنز تأكل عشاءه " .
ونفضت بنت مجذوب رماد السيجارة على الأرض بحركة مسرحية بأصابعها وقالت: " علي الطلاق، كان عنده شيء مثل الوتد حين يدخله في أحشائي لا أجد أرضاً تسعني. كان يرفع رجلي بعد صلاة العشاء، وأظل مشبوحة حتى يؤذن آذان الصبح. وكان حين تأتيه الحالة يشخر كالثور حين يذبح وكان دائماً حين يقوم من فوقي يقول: هالله هالله يا بنت مجذوب ". فقال لها جدي: " لا عجب انك قتلته في عز الشباب ". فضحكت بنت مجذوب وقالت: " قتله أجله. هذا الشيء لا يقتل أحداً " .
كانت بنت مجذوب امرأة طويلة لونها فاحم مثل القطيفة السوداء، ما يزال فيها إلى الآن وهي تقارب السبعين بقايا جمال. وقد كانت مشهورة في البلد، بتسابق الرجال والنساء على السواء لسماع حديثها لما فيه من جرأة وعدم تحرج. وكانت تدخن السجاير وتشرب الخمر وتحلف بالطـلاق كأنها رجـل. ويقال أن أمها كانت ابنة أحد سلاطين دارفور. وقد تزوجت عدداً من خيرة رجال البلد، ماتوا كلهم عنها وتركوا لها ثروة ليست قليلة. وقد انجبت ولداً واحداً وعدداً لا يحصى من البنات أشتهرن بجمالهن وعدم تحرجهن في الحديث، مثل أمهن. ويروى أن إحدى بنات بنت مجذوب تزوجت رجلاً لم تكن أمها راضية عنه. وحملها وسافر بها. ولما عاد بعد نحو من عام أراد أن يقيم وليمة يدعو إليها أقارب زوجته. فقالت له الزوجة: " أن أمي لا تتحرج في كلامها ومن الخير أن ندعوها وحدها ". وفعلاً ذبحوا وأولموا لها. وبعد أن طعمت وشربت قالت لابنتها وزوجها يسمع: " يا آمنة. هذا الرجل لم يقصر في حقك. فمسكنك حسن وملبسك حسن، وقد ملأ يديك ورقبتك ذهباً. ولكن لا يبدو على وجهه أنه يقدر على إشباعك في الفراش. فإذا أردت الشبع الصحيح فأنا أعرف لك زوجاً إذا جاءك لا يتركك حتى تزهق روحك " ولما سمع الزوج هذا الكلام غضب غضباً شديداً وطبق زوجته ثلاثاً في الحين .
وقالت بنت مجذوب لود الريس: " ما بالك، لك عامان وأنت مكتف بزوجة واحدة؟ هل ضعفت همتك؟ " .
وتبادل ود الريس وجدي نظرات لم أفهمها إلا فيما بعد، وقال: " الوجه وجه شيخ والقلب قلب شاب. هل تعرفين أرملة أو شيباً تصلح لي؟ " .
وقال بكري: " النصيحة لله يا ود الريس. أنت لم تعد رجل زواج. انك الآن شيخ في السبعين وأحفادك صار لهم أولاد. ألا تستحي، لك كل سنة عرس؟ الآن يلزمك الوقار والاستعداد لملاقاة الله سبحانه وتعالى " .

ضحكت بنت مجذوب وضحك جدي لهذا القول، وقال ود الريس في غضب مصطنع: " ماذا يفهمك أنت في هذه الأمور؟ أنت وحاج أحمد كل واحد منكم اكتفى بامرأة واحدة ولما ماتتا وتركنا كما لم تجدوا الجرأة على الزواج. حاج أحمد هذا طول اليوم في صلاة وتسبيح كأن الجنة خلقت له وحده. وأنت يا بكر مشغول في جمع المال إلى أن يريحك منه الموت. الله سبحانه حلل الزواج وحلل الطلاق وقال ما معناه خذوهن بإحسان أو فارقوهن بإحسان.
وقال في كتابه العزيز: النسوان والبنون زينة الحياة الدنيا ". وقلت لود الريس أن القرآن لم يقل " النسوان والبنون " ولكنه قال " المال والبنون ". فقال: " مهما يكن، لا توجد لذة أعظم من لذة النكاح " .
وملس ود الريس شاربيه المقوسين بعناية إلى أعلى، طرفاهما كحد الإبرة، ثم أخذ يمسح بيده اليسرى لحيته الغزيرة البيضاء التي تلبس وجهه من الصدغ إلى الصدغ، ويتنافر لونها الأبيض الناصع من سمرة وجهه كلون الجلد المدبوغ، كأن اللحية شيء صناعي ألصق بالوجه. ويختلط بياض اللحية دون مشقة ببياض العمة الكبيرة، مقيماً إطاراً صارخاً يبرز أهم معالم الوجه: العينين الجميلتين الذكيتين، والأنف المرهف الوسيم. وود الريس يستعمل الكحل متذرعاً بأن الكحل سنة، لكنني أظن أنه يفعل ذلك زهواً. كان في مجموعه وجهاً جميلاً، خاصة إذا قارنته بوجه جدي الذي ليس فيه شيء يميزه، ووجه بكري وهو كالبطيخة المكرمشة. وواضح أن ود الريس يدرك ذلك، وقد سمعت أنه كان في شبابه آية في الحسن، وأن قلوب الفتيات كانت تخفق بحبه قبلي وبحري ، أعلى النهر وأسفله. كان كثير الزواج والطلاق لا يعنيه في المرأة أنها إمرأة، يأخذهن حيثما اتفق، ويجيب إذا سئل: " الفحل غير عواف ". وأذكر من زوجاته دنقلاوية من الخندق، وهندوية من الغضارف، وأثيوبية وجدها تخدم ولده الأكبر في الخرطوم، وأمرأة من نيجيريا عاد بها في حجته الرابعة. ولما سئل كيف تزوجها قال أنه اجتمع بها وبزوجها في السفينة بين بورسودان وجدة وتصادق معها. ولكن الرجل توفى في مكة يوم الوقوف على عرفات. وقال له وهو يحتضر: " أوصيك بزوجتي خيراً ". ولم يجد خيراً من زواجها. عاشت معه ثلاثة أعوام، وهو وقت طويل بحساب ود الريس. وكان فرحاً بها، وأعظم سروره أنها كانت عاقراً، وكان يحكي للناس خصائص أفعاله معها، ويقول: " من لم يتزوج فلاتية لم يعرف الزواج ". وأثناء حياته معها تزوج بامرأة من الكبابيش، عاد بها في زيارة له إلى حمرة الشيخ. لكن المرأتين لم يطيقا الحياة معاً، فطلق الفلاتية إرضاء للكباشية، ولكن الكباشية، بعد ذلك بقليل هجرته وهربت إلى أهلها في حمرة الشيخ .
وضربني ود الريس بكوعه في جنبي وقال: " قالوا نسوان النصارى شيء فوق التصور ". فقلت له: " لا أدري ". فقال: " أي كلام هذا؟ شاب مثلك في عز الشباب يعيش سبع سنين في بلاد الهنك والرنك وتقول لا أدري " .
سكت، فقال ود الريس: " قبيلتكم هذه لا خير فيها. أنتم رجال المرأة الواحدة - ليس فيكم غير عمك عبد الكريم ذلك هو الرجل " .
كنا بالفعل معروفين في البلد بأننا لا نطلق زوجاتنا ولا نتزوج عليهن، وكان أهل البلد يتندرون علينا يقولون أننا نخاف من زوجاتنا. إلا عمي عبد الكريم - كان مطلاقاً مزواجاً، وزانياً أيضاً.
وقالت بنت مجذوب: " حريم النصارى لا يعرفن لهذا الشيء كما تعرف له بنات البلد. نساء غلف، الحكاية عندهن كشرب الماء. بنت البلد تعمل الدلكة والدخان والريحة وتلبس الفركة القرمصيص. وحين ترقد على البرش الأحمر بعد صلاة العشاء وتفتح فخذيها، يشعر الرجل كأنه أبو زيد الهلالي. الرجل الما عنده همة يصبح له همة " .
وضحك جدي وضحك بكري وقال ود الريس: " دعك من بنات البلد يا بنت مجذوب. النسوان البرانيات، هؤلاء هن النساء ".
وقالت بنت مجذوب: " عقلك هو البراني ". وقال جدي: " ود الريس يحب النسوان الغير مطهرات " .
وقال ود الريس: " علي اليمين يا حاج أحمد، لو ذقت نساء الحبش والفلاتة كنت رميت مسبحتك. وتركت صلاتك ما بين افخاذهن كأنه الصحن المكفي، صاغ سليم، بكامل خيره وشره . عندنا هنا يقطعونه ويتركونه مثل الأرض الخلاء " .
وقال بكري: " الختانة من شروط الإسلام ". فقال ود الريس: " أي أسلام هذا؟ إسلامك أنت وإسلام حاج أحمد، لأنكم لا تعرفون الذي يصلحكم والذي يضركم. الفلاتة والمصريون وعرب الشام. أليسوا مسلمين مثلنا؟ لكنهم ناس يعرفون الأصول. يتركون نساءهم كما خلقهن الله. أما نحن فنجزهن كما تجز البهيمة ".
وضحك جدي حتى أسقط حبات من مسبحته مرة واحدة دون وعي، وقال: " المصريات، مثلك لا يقدر عليهن ". قال له ود الريس: " وما أدراك أنت بالمصريات؟ " فقال بكري بالنيابة عن جدي: " هل نسيت أن حاج أحمد سافر إلى مصر سنة ستة وأقام فيها تسعة أشهر ؟ " .
وقال جدي: " مشيت على قدمي، ليس معي غير المسبحة والإبريق " .
فقال ود الريس وماذا فعلت؟ عدت كما ذهبت بالمسبحة والإبريق.علي اليمين، لو كنت محلك لما عدت فارغ اليدين ".
فقال جدي: " أظنك كنت رجعت ومعك امرأة. هذا هو كل همك. أنا رجعت ومعي المال فأشتريت الأرض وعمرت الساقية وطهرت أولادي "
وقال ود الريس: " بالله يا حاج أحمد، هل ذقت الشيء المصري؟ " .
كانت حبات المسبحة طول الوقت تنفلت بين أصابع جدي طالعة نازلة كأنها دولاب الساقية. لكن الحركة توقفت فجأة ورفع وجهه إلى السقف وفتح فمه. لكن بكري كان أسبق منه فقال: " أنت يا ود الريس مجنون. رجل كبير لكن ما عندك فهم. النسوان نسوان في مصر أو السودان أو العراق أو واق، الواق. السوداء والبيضاء والحمراء كلهن سواسية " .
ولم يستطع ود الريس من شدة دهشته أن يقول شيئاً. ونظر إلى بنت مجذوب كأنه يستنجد بها. وقال جدي: " الحق لله أنني كدت أتزوج في مصر. المصريون ناس طيبون ويحفظون العشرة . والمرأة المصرية تعرف قيمة الرجل. تعرفت برجل تقي في بولاق كنا نلتقي دائماً في صلاة الفجر في مسجد أبو العلاء. دخلت بيته وتعرفت على أهله كان أبو بنات عنده ست بنات كل واحدة تقول للقمر قوم وأنا أقعد محلك. بعد مدة قال لي: يا سوداني أنت رجل متدين وتحفظ العشرة خليني أزوجك بنتاً من بناتي. الحق لله يا ود الريس نفسي مالت إلى البنت الكبيرة. لكن بعدها بقليل جاني تلغراف بوفاة المرحومة أمي فسافرت في الساعة والحين ". وقال بكري: " يا خسارة. الدنيا هكذا. تعطي الذي لا يريد أن يأخذ. على اليمين لو كنت في محلك كنت عملت عمايل. كنت تزوجت وقعدت هناك وذقت حلاوة الحياة مع بنات الريف .
ماذا أرجعك لهذا البلد الخلاء المقطوع ؟ " .
وقال بكري: " الغزال قالت بلدي شام " .
وكانت بنت مجذوب قد أوقدت سيجارة أخرى جذبت منها الدخان بسخاء وعكرت به سماء الغرفة، فقالت لود الريس: " أنت لم تعدم حلاوة الحياة حتى ولا تكبر مع أنك زدت على السبعين ".
فقال ود الريس: " على اليمين، سبعين سنة فقط لا تزيد يوماً واحداً. إنما أنت شرط أكبر من حاج أحمد " .
فقال له جدي: " خاف الله يا ود الريس. بنت مجذوب لم تكن ولدت حين تزوجت أنا. وهي أصغر منك بسنتين أو ثلاث ".
فقال ود الريس: " على أي حال، أنا في يومنا هذا أنشط واحد فيكم. وعلي اليمين، بين فخذي إمرأة أنا أنشط من حفيدك هذا ".
فقالت بنت مجذوب: " أنت في الكلام. ولابد أنك تجري وراء النساء لأن بضاعتك مثل عقله الأصبع " .
فقال ودر الريس: " لو كنت تزوجتيني يا بنت مجذوب لوجدت شيئاً مثل مدافع الانكليز ". فقالت بنت مجذوب: " المدافع سكتت وقت مات ود البشير. أنت ود الريس رجل مخرف، عقلك في رأس ذكرك، ورأس ذكرك صغير مثل عقلك " .
وأرتفع ضحكهم جميعاً، حتى بكري الذي كان من قبل يضحك بهـدوء. وتوقف جدي عن الطقطقة بمسبحته تماماً، وضحك ضحكته النحيلة الخبيثة المنطلقة. وضحكت بنت مجذوب بصوتها الرجالي المبحوح. وضحك ود الريس ضحكاً أقرب إلى الشخير منه إلى الضحك ومسحوا الدموع من أعينهم - وقال جدي: " أستغفر الله العظيم وأتوب إليه
وقالت بنت مجذوب: " أستغفر الله. اللهم أغفر لنا وأرزقنا حسن الختام " .
وقال بكري: " أستغفر الله، اللهم أغفر لنا وأرزقنا حسن الختام ".
وقال ود الريس: " أستغفر الله. أيام نقضيها على وجه الأرض وبعدها ربنا يفعل فينا ما يشاء. وهبت بنت مجذوب واقفة دافعة واحدة، كما يهب رجل في الثلاثين، وانتصبت بطولها، معتدلة القامة، لا انحناء في الظهر ولا تقوس في الكتفين. وقام بكري متحاملاً على نفسه وقام ود الريس يتكئ قليلا على عصاه. وقام جدي من على فروة الصلاة وجلس على سريره ذي الأرجل القصيرة، ونظرت إليهم، ثلاثة شيوخ وأمرأة شيخة، ضحكوا برهة على حافة القبر. وفي غد يرحلون. غداً يصير الحفيد أباً والأب جد ، وتستمر القافلة .
ثم خرجوا. وقال لي ود الريس وهو يذهب: " باكر يا أفندي تتغدى معنا " .
وتمدد جدي على سريره، ثم ضحك، وحده هذه المرة، كأنما يؤكد إحساسه بالعزلة، وبعد فترة قال: " هل تدري لماذا دعاك ود الريس للغداء؟ " فقلت له أننا أصدقاء وقد دعاني من قبل. فقال جدي: " أنه يريد منك خدمة " .
فقلت: " ماذا يبغي ؟ " .
قال: " يبغي الزواج " .
فتضاحكت وقلن لجدي: " ما شأني بزواج ود الريس ؟ "
فقال جدي: " أنت وكيل العروس " .
لذت بالصمت. فقال جدي وهو يظن أنني لم أفهم: " ود الريس يريد أن يتزوج أرملة سعيد " .
مرة أخرى لذت بالصمت. فقال جدي: " ود الريس لا يزال شاباً، وهو صاحب مال. وعلى أي حال المرأة يلزم لها الستر. ثلاثة أعوام مرت على وفاة زوجها. ألا تريد الزواج أبداً؟ ".
قلت له أنني لست مسؤولاً عنها. أبوها كوجود وأخوتها، فلماذا لا يطلبها ود الريس منهم؟ فقال جدى: " البلد كلها تعرف أن مصطفى سعيد جعلك وصياً على زوجته وولديه " .
قلت له أنني وصي على الولدين ولكن المرأة حرة التصرف وأولياؤهم موجدون. فقال جدى: " أنها تثق بكلامك. لو حدثتها فقد ترضى ".
أحسست بغيظ حقيقي أدهشني، إذا أن هذه الأشياء مألوفة في البلد. وقلت لجدي: " أنها رفضت رجالاً اصغر منه سناً، أنه يكبرها بأربعين عاماً ". لكن جدي أصر على أن ود الريس شاب وأنه ميسور الحال وأنه متأكد أن أباها لن يمانع ولكن المرأة نفسها قد ترفض ولذلك أرادوا أن يجعلونني واسطة خير.
حبس الغضب لساني فلذت بالصمت. وقفزت إلى ذهني صورتان فاضحتان في آن واحد. ولشدة عجبي، أتحدت الصورتان في ذهني، وتخيلت حسنة بنت محمود، أرملة مصطفى سعيد، هي المرأة نفسها في الحالتين - فخذان بيضاويان مفتوحتان يف لندن، وأمرأة تئن تحت ود الريس الكهل، قبيل طلوع الفجر في قرية مغمورة الذكر على منحنى النيل. أن كان ذلك شراً فهذا أيضاً كذلك. وأتصور حسنة بنت محمود، أرملة مصطفى سعيد، في الثلاثين من العمر، تبكي تحت ود الريس الذي بلغ السبعين، ويتحول بكاؤها إلى قصص من قصص ود الريس الذي المشهورة عن نسائه الكثيرات، يتندر بها رجال البلد، فيزداد الغيظ في صدري ضراوة. ولم أستطع البقاء فخرجت، وسمعت جدى ينادي ورائي فلم التفت و وفي بيتنا سألني أبي عن سبب غضبي فحكيت له القصة. ضحك وقال: " هل هذا شيء يثير الغضب؟ " .

ليست هناك تعليقات: