المشاركات الشائعة

الأحد، 19 ديسمبر 2010

حزب" الدعوة" والانتحار السياسي بزجاجة "عرق"! / علاء اللامي
علاء اللامي   
alaa_allamiفي ذروة أزمة تشكيل الحكومة، وخلال زيارة رئيس الوزراء نوري المالكي إلى تركيا، واجتماعاته المطولة والمكثفة مع القادة الأتراك في إسطنبول وأنقرة، راجت أقاويل وتحليلات وتكهنات،
قد يكون مصدرها أوساطا معينة في حزب المالكي "الدعوة" نفسه، مفادها أنَّه متأثر ومعجب بتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا وهو حزب ذو خلفية إسلامية يحاول وبنجاح حتى الآن المزج أو المزاوجة بين هذه الخلفية وبين العلمانية في صورتها الأتاتوركية المغالية. من المعلوم أن تجربة حزب الدعوة الإسلامية بقيادة المالكي في الحكم لا تكاد تذكر، فهي في المقام الأول تجربة المالكي شخصيا، والنجاحات التي أحرزها هذا الحزب خصوصا في بغداد في الانتخابات الأخيرة، إنما كانت نجاحات للمالكي، و تحديدا لأنه انشقَّ وتمردَ في فترة معينة على مشروع الاحتلال الهادف لإقامة وترسيخ نظام حكم المحاصصة الطائفية العرقية. وحين وقف المالكي ضد التوجهات التكفيرية والطائفية، وضرب بحزم المليشيات الشيعية والسنية، ارتفع سهمه بين أوساط واسعة من العراقيين من جميع الطوائف. هكذا، لا يمكننا أن نعتبر تلك النجاحات نجاحات للحزب بل لزعيمه. والخلاصة التي دلَّلت الأحداث في ما بعد على صحتها تقول إنَّ الأحزاب الدينية لا مستقبل لها في مجتمع تعددي ذاق مرارة التقاتل الطائفي والمذهبي كالمجتمع العراقي. مصداق ذلك نجده في خروج أحزاب وجبهات دينية "شيعية وسنية" كانت ذاتَ وزنٍ ثقيلٍ ذات يوم، من الساحة السياسية والاجتماعية،  أو أنها تحولت إلى قوى هامشية ورمزية كما هي الحال مع حزب المجلس الأعلى "الشيعي" والحزب الإسلامي "الفرع العراقي لحركة الإخوان المسلمين" وجبهته التي يقودها "التوافق". ولو كانت مواقف المالكي العملية كقائد للسلطة التنفيذية عكس ما كانت عليه، و لو أنه اتبع النهج الديني الإسلامي الشيعي المتشدد الذي يُحسب عليه عادةً،  لما اختلف مصير حزبه سياسيا عن مصير حزب الحكيم أو الإخوان المسلمين. يبدو أن هذه التطورات، سواءَ صحتْ تلك الأقاويل عن تأثر المالكي وإعجابه بتجربة حزب العدالة والتنمية التركي، أو لم تصح، أخذت منحىً آخرَ ومعاكسا  منذ فترة قريبة. فكما يبدو عاد حزب المالكي - أو أعيد من قبل قيادات معينة فيه-  إلى تراثه الإسلامي الشيعي المتشدد، ومن مظاهر ودلائل هذه العودة ما حدثَ من تخريبٍ لمهرجان بابل الفني وطردٍ مهينٍ للفرق الموسيقية والراقصة العراقية والأجنبية بأوامر من الحكومة المحلية لمحافظة بابل التي يهيمن عليها حزب المالكي. إضافة إلى المضايقات الكثيرة ذات الطابع المعادي لمظاهر الحداثة في مهرجان المربد، وأخيرا الهجمة الشرسة لمحافظ بغداد صلاح عبد الرزاق ورئيس مجلس المحافظة كامل الزيدي وكلاهما من قيادة حزب المالكي على ما اعتبره مثقفون بغداديون مظاهر الحريات الفردية، وإصدارهما لقرارات متتابعة بمنع بيع المشروبات الكحولية، وإغلاق النوادي الليلية ومنها النادي الاجتماعي لاتحاد الأدباء العراقيين، وإجبار رئيس الاتحاد على التوقيع على بلاغ رسمي لا يخلو من التلميحات المُهِينَة منها أن إغلاق النادي يأتي أسوة بإغلاق البارات والملاهي الليلية غير الشرعية. وحين احتجَّ أصحاب المحلات وأغلبهم من المسيحيين على قرارات الإغلاق، قيل لوسائل الإعلام  بأن رخصهم لم تجدد منذ زمن طويل، ولكن النائب المسيحي يوناديم كنا فند هذه المعلومة وقال بأن هيئة السياحة والآثار الحكومية المكلفة بمنح تلك الرخص رفضت تجديد رخص تلك المحلات أو إصدار رخص جديدة لأسباب قال المسؤولون الحكوميون في هذه الهيئة بأنها شرعية دينية. وحين اعتصم مثقفون بغداديون في شارع المتنبي احتجاجا على ما اعتبروه مظاهر "خنق الحريات"، جوبهوا بحملة قاسية من الشتائم وتشنيعات من قبل رسميين في المحافظة ومجلسها ومن رجال دين هرعوا لنجدتهم. وبعد يومين، اهتز الوسط الفني لما قيل إنه قرار من وزير التربية خضير الخزاعي وهو من حزب المالكي أيضا، يمَنعُ فيه تدريسَ الموسيقى والمسرح في معهد الفنون الجميلة ببغداد، أحد أعرق معاهد الفنون الجميلة في الشرق الأوسط، وبإخلاء المعهد من التماثيل والأعمال النحتية "الأصنام". وإزاء رد الفعل القوي من الطلبة وأساتذتهم تراجعت الوزارة عن قرارها كما يبدو ولكنها اعترفت بأنها إنما منعت تدريس المسرح والموسيقى للإناث فقط في المعهد المذكور وبعزلهن عن الذكور في قاعات التدريس ولكنَّ المسؤولين في المعهد رفضوا تنفيذ تلك التعليمات لأنها جاءت بقرارات وأوامر شفوية وليست تحريرية.
وكخلفية مشهدية لهذه الأجواء والأحداث فقد انتشرت مؤخرا في شوارع وساحات بغداد وبعض المحافظات، ظاهرة تعليق اللافتات والنداءات الملونة التي تحثُّ الجميع على الالتزام بالحجاب الإسلامي، وتحذر من مخالفة الأوامر الإلهية. و إثر تلك الأحداث والتطورات هرع عدد من القيادات الإسلامية الشيعية لتأييد وتشجيع هذه الحملة: فالشيخ اليعقوبي، المرشد الروحي لحزب الفضيلة الإسلامي، المتهم من أطراف عديدة بأنه الحزب الذي يقف وراء ما عُرِفَ  بفضائح تهريب النفط في محافظة البصرة، أصدر بيانا يؤيد فيه تلك (الثلة المؤمنة الصالحة التي لا يأخذها في الله لومة لائم...) و التي كانت خلف إصدار هذه القرارات. وقد نال اتحاد الأدباء حصته من غضبة اليعقوبي حيث وصفه بأوصاف شنيعة. قال (لقد أثبت ما يسمى باتحاد الأدباء انه لا أدب له ولا حياء والعار له ولكل من ساند حركته هذه ولقد كان ينقل لنا عما يجري في ناديهم من سكر وعربدة ومخازي..الخ) كما هرع الشيخ صدر الدين القبانجي المعروف بخطاباته الطائفية النارية خلال فترة التقاتل المذهبي، إلى المشاركة في هذه الحملة، وأصدر بيانا مشابها. ومثله فعل التيار الصدري و الشيخ محمد أمين شبر فيما سكت المالكي عن هذه الأحداث سكوتا مطبقا.
إنَّ الزيدي وعبد الرزاق والخزاعي وغيرهم من قيادة حزب المالكي اعتمدوا في حملتهم، من الناحية القانونية، على نصوص أصدرها الرئيس السابق صدام حسين خلال حملته التي أسماها "الحملة الإيمانية" وأطلقها بضعَ سنواتٍ قبل هزيمة نظامه أمام قوات الاحتلال الأجنبي، وكان استثنى خلالها اتحاد الأدباء التابع لنظامه آنذاك، ولكنَّ تلك الحملة، و رغم كل ما يقال عن جرائم ذلك النظام لم تبلغ ما بلغته حملة الزيدي وعبد الرزاق والخزاعي من إرعاب للجمهور البغدادي والعراقي عموما، وتسميم أجواء الحياة اليومية الزاخرة بالمشكلات و الصعوبات، هذا الجمهور الذي لم يستفق تماما من صدمات وجروح التقاتل الطائفي والمذهبي بين المليشيات الشيعية والسنية ومن الآثار المدمرة لتفجيرات تنظيم القاعدة الدموية، وهؤلاء الثلاثة لا ينكرون أنهم يعتمدون على تلك النصوص.
ولأن المدن العريقة – كما قال أحد المؤرخين - لا تتسامح مع الذين ينتهكون سلامها الداخلي وخصوصياتها الصغيرة والموروثة، فلنا أن نتوقع أن جمهور بغداد والمحافظات سيعاقب حزب "الدعوة" في أقرب مناسبة انتخابية عقوبة قد تلحقه بحزب الحكيم والإخوان المسلمين في الهامش السياسي، فيمنح – هذا الجمهور - أصواته لعلمانيي الاحتلال على عِلّاتهم في قائمة إياد علاوي أو في حزب حميد مجيد "الشيوعي"، لانعدام البديل الوطني العلماني حاليا. وبالمناسبة، فقد التزم  علاوي وحلفاؤه في قائمة "العراقية" صمتا مطبقا لا يقل عن صمت المالكي خلال هذه الأحداث! ولكن كيف نفسر صمت  المالكي ذاته؟ هل يمكن أنْ يقال أنه لا يريد أن يؤيد قرارات الثلاثي المتشدد في حزبه علنا لئلا يقال بأنه يؤيد قرارات "بعثية صدامية"؟ أو أنه لا يريد أن يقف ضدهم فيُتهَم بالخروج على البرنامج الإسلامي الشيعي لحزبه، وبالتالي على تفسيره الخاص للشريعة الإسلامية؟  غير أنَّ هناك أسبابا أخرى بكل تأكيد، ربما كان أوضحها انشغاله وغرقه حتى الأذنين بمعضلة تقسيم كعكة الحكم بين الضواري الحزبية المتنافسة، إضافة إلى أسباب أخرى أكثر أهمية. 
ولكنْ – قد يتساءل البعض - هل ثمة علاقة بين حملة الزيدي وعبد الرزاق والخزاعي و بين ما كُشِفَ النقابُ عنه  قبل يومين فقط من صدور تلك القرارات التحريمية، ومفاده أن المالكي يعتزم تغيير وإعفاء بعض القيادات والمسؤولين الحكوميين من حزبه، ذُكِرَ من بينهم أمين العاصمة وأمين شبكة الاتصالات والإعلام ورئيس هيئة النزاهة  وغيرهم، فهل شعر الزيدي و عبد الرزاق و الخزاعي  بخطرٍ ما على كراسيهم، دفعهم إلى القيام بهذه الضربة الاستباقية حتى إذا ما قرر المالكي قصقصة أجنحتهم أو إعفائهم من مناصبهم بدا ذلك للجمهور ردّاً على "توجهاتهم الإسلامية" وفي هذا إحراج كبير له على المستوى الحزبي الداخلي في الأقل. وجهة نظر هذه، قد لا تحمل الكثير من المبررات، ولكنها تبقى موجودة في الساحة العراقية التي اعتبرت أنَّ هؤلاء المسؤولين الثلاثة وغيرهم  من ذات التوجه  يدفعون يقينا بحزب المالكي إلى الانتحار السياسي..وقد يضيف بعض الظرفاء بأنه سيفعل ذلك بزجاجة "عرق" بسبب موقعة "ذات القوارير" الخاسرة!

ليست هناك تعليقات: