المشاركات الشائعة

الأحد، 19 ديسمبر 2010

امبرتكو ايكو
فصل من رواية "اللهب الغامض للملكة لوانا"
ترجمة: خالد الجبيلي

 كان غرانيولا معلّماً، لم أكن أعرف ماذا يعلّم، في المدارس المهنية، وكان يذهب كلّ صباح على دراجته ويعود إلى البيت بعد الظهر. لكن كان عليه أن يتوقّف - قال البعض لأنه يكرّس نفسه بكل جوارحه آنذاك للأنصار، وهمس آخرون لأنه لا يستطيع الاستمرار بسبب إصابته بالسل. وبالفعل كانت تبدو على غرانيولا ملامح المسلولين، وجه رمادي، وصدغان ورديان واهنان، وخدان أجوفان، ولم يكن يتوقف عن السعال. وكانت أسنانه سيئة، رخوة، وكان محدودب الظهر قليلاً، أو أن عموده الفقري كان محنياً، وعظام كتفيه ناتئة إلى الخارج، وكانت ياقة سترته تبتعد عن رقبته، لذلك كانت ثيابه تبدو وكأنها معلقة عليه مثل كيس. وعلى المسرح، كان يمثّل دائماً دور الرجل السيء، أو ناظر فيلا سرية أعرج.
 وكان الجميع يقولون إنه ينبوع من المعارف العلمية، ويدعى غالباً للتدريس في الجامعة، لكنه كان يرفض بسبب ولعه بطلابه. "هراء"، قال لي لاحقاً، "يامبو، لم أعلّم إلا في مدرسة الأطفال الفقراء، كمعلّم بديل، لأنني بسبب هذه الحرب الكريهة لم أتمكن حتى من التخرج في الجامعة. فعندما كنت في العشرين من عمري أرسلوني لأقصم ظهر اليونان، وأصبت في ركبتي، ولم أهتم بذلك لأني لا أكاد أستطيع التحدث عن ذلك، لكن في مكان ما من ذلك الوحل، أصبت بمرض سيء وبدأت أبصق دماً منذ ذلك الحين. لو وقع ذو الرأس السمين في يديّ، فلن أقتله لأنني لسوء الحظ جبان، لكنني سأركل مؤخرته حتى تذبل ولا تعود صالحة للاستخدام في الفترة القصيرة التي آمل أنها تبقت له من حياته، يهوذا".
 وسألته ذات يوم عن السبب الذي يجعله يرتاد قاعة الموسيقى في الكنيسة، مع أن الجميع يقولون إنه ملحد. فقال إنه يأتي إليها لأنها المكان الوحيد الذي يمكنه أن يرى فيه أناساً. وفضلاً عن ذلك، فهو ليس ملحداً، بل فوضوي. لم أكن أعرف آنذاك من هم الفوضويون، وشرح لي أنهم أناس يسعون لنيل الحرية، من دون سادة، ولا ملوك، ولا دولة، ولا قساوسة. "والأهم من كل ذلك لا دولة، ليس مثل هؤلاء الشيوعيين في روسيا الذين تقول لهم الدولة متى يجب أن يستخدموا المرحاض".
 وحدثني عن غايتانو بريسي الذي ترك أمريكا حيث كان يعيش بسلام، دون بطاقة عودة، بعد أن اختارته مجموعته الفوضوية باليانصيب، ليقتل الملك أومبيرتو لأنه أمر بمذبحة العمّال في ميلانو. وبعد أن فعل ذلك، قُتل في السجن، وقال المسؤولون إنه شنق نفسه بدافع من تأنيب الضمير. لكن الفوضوي لا يندم أبداً على الأعمال التي يقوم بها باسم الشعب. وحدثني عن الفوضويين الأسطوريين الذين كانوا يهاجرون من بلد إلى آخر، تطاردهم الشرطة في كل مكان، وهم ينشدون : الوداع، لوغانو الجميلة".
 ثم عاد ليتحدث بشكل سيء عن الشيوعيين الذين قتلوا الفوضويين في كاتالونيا. وسألته لماذا انضم إلى رجال غاريبالدني الشيوعيين، إن كان ضد الشيوعيين، فأجاب أولاً، ليس جميع أعضاء غاريبالدني من الشيوعيين، بل تضم في صفوفها اشتراكيين وفوضويين، وثانياً، لأن الأعداء الآن هم الفاشيون - النازيون، ولا يوجد وقت للمماحكة في الأمور التافهة. "أولاً سننتصر معاً، ثم نحلّ خلافاتنا فيما بعد".
 ثم أضاف أنه يأتي إلى قاعة الموسيقى لأنها مكان جيد. والقساوسة مثل غاريبالدني، ينتمون إلى ذرية سيئة، إلا أنه يوجد بعض الرجال المحترمين بينهم. "وخاصة في هذه الأوقات التي لا يعرف أحد ما سيحدث لهؤلاء الفتيان، الذين كانوا يلقُّنون حتى السنة الماضية بأن الكتب والبنادق تصنع فاشيين مثاليين. وعلى الأقل، ففي الكنيسة لا يدعون الفتيان يذهبون إلى الكلاب، بل كانوا يعلّمونهم كيف يصبحون محترمين، حتى لو كانوا يثيرون لغطاً بسبب الاستمناء، لكن هذا لا يهمّ، لأنكم تفعلون ذلك جميعكم على أي حال، وعلى الأغلب فإنكم تعترفون بذلك لاحقاً. لذلك فإني آتي إلى الكنيسة وأساعد دون كونياسو في الإشراف على لعب الأطفال. وعندما نذهب إلى القداس، أجلس بهدوء في الصفوف الخلفية من الكنيسة، لأني أحترم المسيح مع أني لا أعتبره إلهاً".
 وذات يوم أحد، وفي الساعة الثانية ظهراً عندما لم يكن سوى عدد قليل منا في القاعة، حدثته عن طوابعي، فقال إنه كان يجمع الطوابع ذات يوم أيضاً، لكنه عندما عاد من الحرب فقد الاهتمام بها وألقى بها جميعها. وقال إنه بقي لديه عشرون طابعاً أو ما يقارب ذلك وسيسعده تقديمها لي.
 ذهبت إلى بيته ودهشت كثيراً لهذا المكسب المفاجئ: إذ كان فيها طابعان من فيجي عليهما ختم، ورحت أحدق فيهما بشوق شديد في صفحات إفيرت وتيلير.
 "إذن يوجد لديك إفيرت وتيلير أيضاً؟" سألني بإعجاب.
 "نعم، لكنه قديم...".
 "إنهما الأفضل".

 جزر فيجي. لهذا السبب كنت مفتوناً بهذين الطابعين عندما عدت إلى سولارا. فبعد أن قدمهما غرانيولا إليّ، أخذتهما إلى البيت ووضعتهما في صفحة جديدة من ألبومي. كان مساءاً شتوياً، وكان أبي قد عاد إلى البيت البارحة، لكنه ما لبث أن غادر في عصر ذلك اليوم، عائداً إلى المدينة حتى يحين موعد الزيارة التالية.

(صورة في الصفحة 337)

 كنت في مطبخ الجناح الرئيسي، وهو المكان الوحيد الذي تتوفر فيه تدفئة جيدة في البيت بسبب عدم وجود كمية كافية من الحطب. كان الضوء خافتاً. لا لأن التعتيم كان ذا أهمية كبيرة في سولارا (فمن سيلقي علينا القنابل؟)، بل لأن المصباح الكهربائي كان مظللاً وتتدلى منه خيوط من الخرز، مثل عقد يمكن للمرء أنه يقدمه هدية لسكان فيجي البدائيين.
 كنت جالساً إلى الطاولة أرتب مجموعتي، وكانت أمي ترتّب البيت، وأختي تلعب في الزاوية. وكان المذياع مفتوحاً. كنا قد استمعنا للتو إلى نهاية نسخة ميلانو من "ماذا يحدث في بيت روسي"، وهو برنامج دعائي من جمهورية سالو، يعرض أفراد عائلة واحدة يتناقشون في السياسة ويخلصون بالطبع إلى أن الحلفاء هم أعداؤنا، وأن الأنصار هم رجال عصابات يقاومون الجيش، وأن الفاشيين في الشمال يدافعون عن شرف إيطاليا إلى جانب رفاقهم الألمان. وكانت تقدم أيضاً في أمسيات أخرى، نسخة روما، التي تكون فيها روسي عائلة مختلفة، وتحمل الاسم نفسه، تعيش في روما التي يحتلها الحلفاء الآن، ويدركون في النهاية كيف أصبحت الأمور أفضل مما كانت، ويحسدون جيرانهم في الشمال الذين لا يزالون يعيشون أحراراً تحت راية بلدان المحور. ومن الطريقة التي كانت أمّي تهزّ فيها رأسها، يمكنك أن تعرف أنها لم تكن تصدق ذلك، لكن البرنامج كان حيوياً، سواء استمعت إليه أم أطفأت المذياع.
 وبعد ذلك – إلى أن يدخل جدي الذي يظل في غرفة مكتبه حتى ذلك الحين حيث كان يضع كيساً ليدفئ قدميه - كنا نستطيع أن نستمع إلى إذاعة لندن.
 تبدأ بقرع على الطبل الكبير، معزوفة تكاد تشبه معزوفة بيتهوفن الخامسة، ثم تسمع الكولونيل ستيفينس وهو يقول "مساء الخير"، بلكنته التي تشبه صوت تمثيليات لوريل وهاردي المدبلجة. وصوت آخر كنا قد اعتدنا على سماعه بفضل إذاعة النظام، وهو صوت ماريو أبيليوس، الذي كان ينهي دعاءه بالنصر بعبارة "لعن الله الإنكليز!" أما ستيفينس فلم يكن يلعن الإيطاليين، بل كان يدعوهم إلى الابتهاج معه لهزيمة دول المحور، وكان يتحدث إلينا أمسية بعد أمسية، وكأنه يريد أن يقول: "انظروا ماذا يفعل بكم الزعيم؟"
 لكن سجلاته التاريخية لم تكن تنحصر في معارك الميدان فقط. بل كان يصف حياتنا، أشخاصاً مثلنا، يلصقون آذانهم بالمذياع ليستمعوا إلى صوت لندن، رغم خشيتنا بأن يكون هناك من يتجسس علينا فيزُج بنا في السجن. كان يروي قصتنا، قصة مستمعيه، وكنا نثق به لأنه كان يصف تماماً ما كنّا نفعله جميعنا، الصيدلي المحليّ وحتى – ستيفينس قال- الشرطي عند ناصية الشارع، الذي كان يعرف النتيجة ويتحيّن فرصته. هذا ما كان يقوله، ولئن كان كاذباً في هذا، فقد كنا نثق فيه في الأمور الأخرى. كنا نعرف جميعنا، حتى الأطفال، بأن تقريره كان دعائياً أيضاً، لكننا كنا ننجذب إلى دعاية مخففة، بدون عبارات ودعوات حماسية بالموت. لقد جعل الكولونيل ستيفينس الكلمات التي كنا نتغذى عليها يومياً تبدو مبالغاً فيها.
 لا أعرف السبب، لكنني رأيت هذا الرجل - الذي لم يكن شيئاً سوى صوت – مثل ماندرياك: أنيق في سترته ذات الذيل من الوراء، ولون شاربه الجميل رمادي أكثر بقليل من شارب الساحر، القادر على تحويل المسدّس إلى موزة.
 وبعد أن ينتهي الكولونيل، تبدأ الرسائل الخاصة، الغامضة والموحية مثل طابع مونتسيرات، الموجهة إلى ألوية الأنصار: رسائل إلى فرانتشي، سعيد ليس سعيداً، توقف المطر، لحيتي شقراء، جياكومون يقبّل محمد، النسر يطير، الشمس تشرق أيضاً...
 أرى نفسي بأني لا أزال أعشق طوابع فيجي عندما كنا نسمع فجأة، بين الساعة العاشرة والحادية عشرة، أزيزاً في السماء، فنطفئ الأضواء جميعها ونهرع إلى النافذة بانتظار مرور بيبيتو. كنا نسمعه في كلّ ليلة، في الوقت ذاته تقريباً، أو هكذا كانت تقول الأسطورة آنذاك. كان بعضهم يقول إنها طائرة استطلاع إنكليزية، وبعضهم الآخر يقول إنها طائرة أمريكية جاءت لتسقط الرزم والطعام والأسلحة للأنصار في الجبال، ربما ليس بعيداً عنا، فوق منحدرات لانغ.
 كانت السماء خالية من النجوم، ليلة غير مقمرة، لا يمكننا أن نرى الأضواء في الوادي، ولا حتى خيال التلال، ويمرّ بيبيتو من فوقنا. لم نره على الإطلاق. كان مجرد ضوضاء في الليل.
 لقد مرّ بيبيتو، وعاد كلّ شيء إلى حاله هذا المساء، ونعود إلى أغاني المذياع الأخيرة. في تلك الليلة، ربما تساقطت القنابل على ميلانو، وقد طاردت مجموعات من كلاب شيبرد الرجال الذين يساعدهم بيبيتو عبر التلال، أما المذياع، فقد كان ينطلق بصوت الساكسفون الحماسي "هناك في كابوكابانا، في كابوكابانا المرأة ملكة، ولها الكلمة العليا"، وأتصوّر المغنية الفاترة الألحاظ (لعلي رأيت صورتها في مجلة نوفيلا)، تنساب بهدوء وهي تهبط درجاً أبيض تضيء درجاته ما إن تلامسه قدماها، تحيطها مجموعة من الشباب يرتدون سترات طويلة بيضاً يرفعون قبعاتهم ويجثون أمامها بإعجاب وهي تمرّ. مع كابوكابانا (كانت في الحقيقة كابوكابانا، وليست كوباكابانا)، المغنية المثيرة التي كانت تبعث في جسدي رسالة غريبة مثل التي كانت تبعثها طوابعي.
 ثم يتوقف الإرسال بأناشيد مختلفة عن المجد والانتقام. لكننا يجب ألا نغلقه الآن، كما تعرف أمي.
 وبعد أن يعطي المذياع الانطباع بأنه سيصمت حتى اليوم التالي، نسمع صوتاً منبعثاً من القلب يغني:

 سترجعين
 لي...
 إن ذلك مكتوب في النجوم، كما ترين،
 سترجعين.
 سترجعين،
 إنه الواقع
 بأني قوي لأنّي
 أؤمن بك.

 كنت قد استمعت إلى هذه الأغنية ثانية في سولارا، لكنها كانت أغنية حبّ: ستعودين إليّ/ لأنك حلم قلبي، / حلمه الوحيد / ستعودين، / لأنني / بدون قبلاتك الدافئة / لن أعيش. إذن كانت الأغنية التي كنت أسمعها طوال تلك الأمسيات نسخة عن فترة الحرب، التي لا بد أنها كانت تبدو لقلوب الكثيرين أشبه بوعد، أو نداء إلى شخص بعيد قد يكون في تلك اللحظة متجمداً من البرد في السهول أو في مواجهة فرقة إعدام. من كان يبث تلك الأغنية في ذلك الوقت من الليل؟ موظف ينتابه الحنين، قبل أن ينتهي البث، أو شخص يطيع أمراً من شخص أعلى منه مرتبة؟ لا نعرف، إلا أن ذلك الصوت كان يحملنا إلى عتبة النوم.
 كانت الساعة تقارب الحادية عشرة عندما أغلقت ألبوم طوابعي. لقد حان وقت النوم. وكانت أمي قد هيأت قطعة الآجر، قطعة آجر حقيقية، بعد أن وضعتها في الفرن لكي تصبح حارة، ثم لفّتها في قطعة من الصوف ودستها تحت الملاءات، لكي يتدفأ السرير بأكمله. وعندما تضع قدميك عليها كنت تشعر بالارتياح، وخاصة لأنها كانت تخفّف من شدة حكّ الأصابع المتورمة، التي كانت في تلك السنوات (البرد، نقص الفيتامين، العواصف الهرمونية) تجعل أصابع أيدينا وأقدامنا جميعها تتورم، وتتحول أحياناً إلى تقرحات جلدية مؤلمة.
 يتناهى إلينا نباح كلب صيد من إحدى المزارع في الوادي.

 تحدثنا أنا وغرانيولا عن كلّ شيء. حدثته عن الكتب التي كنت أقرؤها، وكان يناقشني فيها بحماسة. فكان يقول: "إن فيرن أفضل من سالياري لأنه علمي. وسيروس سميث الذي صنع النيتروغليسيرين حقيقي أكثر من ساندوكان وهو يمزّق صدره بأظافره لمجرد أنه وقع في غرام عاهرة في الخامسة عشرة من عمرها".
 "ألا تحبّ ساندوكان؟" سألته.
 "يبدو لي أنه فاشي صغير".
 قلت له ذات مرة إني قرأت "القلب" بقلم دي أميسيس، وطلب مني ألا أقرأه لأن دي أميسيس فاشي. فقد قال: "ألم تلاحظ كيف أنهم جميعهم ضد فرانتي العجوز الذي يتحدر من عائلة فقيرة، ومع ذلك فهم يتسابقون إلى إرضاء ذلك المعلّم الفاشي. وعن أي شيء تدور هذه القصص؟ عن غارون الطيب، الذي كان لاعق مؤخرات، عن الحارس لومبارد الصغير الذي يموت لأن أحد ضباط الملك التعساء أرسل طفلاً لمراقبة العدو، عن الصبي قارع الطبل من سردينيا الذي يرسل في عمره إلى وسط معركة، لينقل رسائل، ثم ذلك الكابتن البغيض، الذي يرمي بنفسه فوق الصبي المسكين الذي يفقد إحدى ساقيه، ويرحب به ويقبّله ثلاث مرات في قلبه، وهي أشياء لا يمكنك أن تفعلها لطفل مقعد. حتى كابتن في جيش بيدمونتيس يجب أن يتمتع بقدر من الذوق. أو والد كوريتي وهو يمسّد وجه ابنه براحة يده التي كانت لا تزال دافئة من مصافحة ذلك الجزّار، الملك. هؤلاء الرجال من أمثال دي أميسيس هم الذين فتحوا الطريق لدخول الفاشية".
 حدثني عن سقراط وجوردانو برونو، وعن باكونين الذي لم أكن أعرف عن أعماله وحياته إلا النذر اليسير. وحدثني عن كامبانيلا وساربي وغاليلو الذين سجنوا جميعهم أو عُذِّبوا على يد القساوسة لأنهم حاولوا نشر المبادئ العلمية، وحدثني عن آخرين انتحروا مثل آرديجو لأن الرؤساء والفاتيكان كانوا يهيمنون عليهم.
 بما أنني كنت قد قرأت المدخل لهيغيل ("Eenin. Ger. Phil، مدرسة وحدة الوجود") في نووفيسيمو مليتزي ، سألت غرانيولا عنه فقال: "لم يكن هيغل يؤمن بوحدة الوجود، وميلتزي لا يفقه شيئاً. ربما كان جوردانو برونو يؤمن بوحدة الوجود لأن أتباع مدرسة وحدة الوجود يؤمنون بأن الله موجود في كل مكان، حتى في البقعة الصغيرة الموجودة في الذبابة التي تراها هناك. يمكنك أن تتخيّل كيف أن هذا الشيء مرض، فأن يكون في كل مكان مثل أنه ليس موجوداً في أي مكان. حسناً، بالنسبة لهيغل لم يكن الله هو الذي يجب أن يكون في كل مكان بل الدولة، لذلك كان فاشياً".
 "لكن ألم يعش قبل أكثر من مائة سنة؟"
 "ولو؟ حتى جان دارك كانت فاشية من أعلى طراز أيضاً. فالفاشيون موجودون على الدوام. منذ عهد... منذ عهد الربّ . خذ الربّ  – إنه فاشي".
 "لكن ألست واحداً من الملحدين الذين يقولون إن الله غير موجود؟ "
 "من قال هذا - دون كونياسو الذي لا يستطيع أن يفهم أتفه الأمور؟ أعتقد أن الله، لسوء الحظ، موجود وهو فاشي".
 "لكن لماذا الله فاشي؟"
 "اسمع، إنك أصغر من أن ألقي عليك محاضرة في اللاهوت. سنبدأ بما تعرفه. اسرد لي الوصايا العشر، خاصة بعد أن جعلتك الكنيسة  تحفظها عن ظهر قلب".
 سردتها له، فقال: "جيد، انتبه الآن. من بين الوصايا العشر تلك توجد أربع، فكّر في الأمر، أربع وصايا فقط تشجع على الأمور الجيدة وحتى تلك، حسناً دعنا نراجعها. لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد زوراً، ولا تشته امرأة قريبك. هذه الأخيرة وصية للرجال الذين يعرفون معنى الشرف: فمن ناحية، لا تزنِ بنساء أصدقائك، ومن الناحية الأخرى حاول أن تحافظ على أسرتك، ويمكنني أن أقبل هذا. إن الفوضوية تريد أن تتخلص من الأسر أيضاً، لكنك لا تستطيع أن تحصل على كلّ شيء في وقت واحد. أما الوصايا الثلاث الأخرى، فإني أتفق معها، لكن الفطرة السليمة تدلك على ذلك في الحدود الدنيا. وحتى عند ذلك، يجب أن تزنها، فجميعنا نكذب أحياناً، وربما حتى لأهداف جيدة، أما القتل، فلا، يجب ألا تفعل ذلك على الإطلاق".
 "حتى لو أرسلك الملك إلى الحرب؟"
 "هنا بيت القصيد. سيقول لك القساوسة إنه إذا أرسلك الملك إلى الحرب فإنك تستطيع، بل في الحقيقة يجب أن تقتل. وأن المسؤولية تقع على عاتق الملك. هكذا يبرّرون الحرب، وهي بشعة وعنيفة، وخاصة إذا كان ذو الرأس السمين هو الذي أرسلك. لكن لاحظ أن الوصايا لا تقول إنه يُسمح لك أن تقتل في الحرب. بل تقول لا تقتل، وانتهى. وبعد ذلك...".
 "ثم؟"
 "دعنا نلق نظرة على الوصايا الأخرى. أنا الرب إلهك. هذه ليست وصية، وإلا لكان عددها عشرة وصية. إنها استهلال. لكنه استهلال مزيف. حاول أن تتصوّر الأمر: يظهر أحدهم لموسى، أو في الواقع لا يظهر، بل يأتي صوت من مكان لا يعرف أحد مصدره، ثم يذهب موسى ويخبر شعبه بأنهم يجب أن يطيعوا الوصايا لأنها جاءت من عند الربّ . لكن من يقول إنها أتت من عند الربّ ؟ ذلك الصوت: "أنا الرب إلهك". وماذا لو لم يكن؟ تخيّل لو أوقفتك في الشارع وقلت لك إني شرطي سري في ثياب مدنية وعليك أن تدفع غرامة قدرها عشر ليرات لأنه ليس مسموحاً لأحد أن يسير في هذا الشارع. لو كنت ذكياً لرددت: وكيف لي أن أتأكد من أنك شرطي، فلعلك شخص يكسب عيشه بالاحتيال على الناس. دعني أرى أوراقك الثبوتية. وبدلاً من ذلك، فإن الربّ يقنع موسى بأنه الربّ لأنه يقول ذلك وهذا كلّ ما في الأمر. إن القصة كلها تبدأ بشهادة زائفة".
 "ألا تؤمن بأن الربّ هو الذي أنزل الوصايا على موسى؟"
 "لا، في الحقيقة إني أؤمن بأن الربّ هو الذي أنزل عليه الوصايا. لكنني أقول إنه استخدم خدعة. إنه يفعل ذلك دائماً: يجب أن تؤمن بالكتاب المقدس لأنه إلهام من الربّ، لكن من يقول إن الكتاب المقدس إلهام من عند الربّ ؟ الكتاب المقدس. أرأيت المشكلة؟ لكن دعنا ننتقل إلى موضوع آخر. تقول الوصية الأولى "لا يكن لك آلهة أخرى أمامي". بهذه الطريقة يمنعك الربّ من التفكير مثلاً بالله، إله المسلمين، أو ببوذا، أو ربما حتى بفينوس، ولنكن صادقين، فليس من السيء أن تكون لدينا تلك القطعة الجميلة كإلهة. لكن هذا يعني أيضاً أنه يجب ألا تؤمن بالفلسفة مثلاً، أو بالعلم، أو بأن تكوّن أيّ أفكار عن أن الإنسان يتحدر من القرود. هو فقط، هذا كلّ ما في الأمر. انتبه الآن، بما أن الوصايا الأخرى جميعها فاشية، فهي مصممة لإرغامك على تقبل المجتمع كما هو. تذكّر الوصية التي تقول: "اذكر يوم السبت لتقدسه... ما رأيك؟"
 "حسناً، أساساً فهو يقول بضرورة الذهاب إلى القداس يوم الأحد – ما الخطأ في ذلك؟"
 "هذا ما يقوله لك دون كونياسو، وهو مثل جميع الكهنة فهو لا يعرف أول شيء عن الكتاب المقدس. أفق! ففي قبيلة بدائية مثل القبيلة التي أخرجها موسى، هذا يعني أن عليك الالتزام بالشعائر، وأن غرض الشعائر – منذ أن بدأت التضحيات البشرية وحتى المسيرات التي تخرج تأييداً لذي الرأس السمين في ساحة فينيسيا - لتشويش عقول الناس! ثم ماذا؟ أكرم أباك وأمك. اصمت، لا تقل لي إنه من الجيد أن يطيع الأطفال آباءهم، الذين يحتاجون إلى الإرشاد والتوجيه. لكن أكرم أباك وأمك يعني أن تحترم أفكار من هم أكبر منك سناً، ألا تعارض التقاليد، ألا تفكر بتغيير أسلوب حياة العشيرة. انظر؟ لا تقطع رأس الملك، مع أن الربّ يعرف أنه لو كانت توجد رؤوس على أكتافنا فيجب أن نفعل ذلك، وخاصة لملك كهذا القزم، الذي خان جيشه وأرسل ضباطه ليلقوا حتفهم. والآن يمكنك أن ترى أنه حتى وصية لا تسرق ليست وصية بريئة تماماً كما تبدو، لأنها تأمرك بألا تلمس ممتلكات خاصة تعود إلى شخص أصبح غنياً لأنه سرقها منك. ويا ليت الأمر انتهى عند هذا. فلا تزال ثلاث وصايا. فماذا تعني ألا ترتكب أعمالاً شائنة؟ إن رجال الدين في العالم سيجعلونك تؤمن بأن هدفها الوحيد هو ألا تهزّ ذلك الشيء المدلىّ بين ساقيك. إن تدخّل الألواح الحجرية لمنعي من الاستمناء في بعض الأحيان، أمر مبالغ فيه. ماذا يفترض برجل مثلي أن يفعل، فشل؟ إن تلك المرأة الجميلة التي هي أمّي لم تجعلني جميلاً، ولم ألمس امرأة في حياتي التي هي امرأة، وهم يريدون أن يحرموني حتى من ذلك النوع من التفريج عن النفس؟"
 آنذاك كنت أعرف كيف يولد الأطفال، لكن أفكاري عن الشيء الذي يفضي إلى ولادتهم كانت غامضة. فقد كنت أسمع أصدقائي يتحدثون عن الاستمناء وعن أنواع أخرى من اللمس، لكنني لم أجرؤ أبداً على أن أسبر أكثر من ذلك. ولم أكن أريد أن أعطي انطباعاً سيئاً لغرانيولا. هززت رأسي بصمت وجدية.
 "فمثلاً كان يمكن للرب أن يقول بإمكانك أن تضاجع، لكن لولادة الأطفال فقط، وخاصة أنه لم تكن هناك أعداد كبيرة من البشر في العالم آنذاك. أما الوصايا العشر فإنها لا تقول ذلك: فمن ناحية، لا يمكنك أن تشتهي زوجة صديقك، ومن الناحية الأخرى لا يمكنك أن ترتكب أعمالاً شائنة. إذن متى يسمح بالمضاجعة؟ إن ما أعنيه حقاً هو أنك تحاول أن تسنّ قانوناً يسري على العالم بأسره - عندما سنّ الرومان، الذين لم يكونوا إلهاً، قوانين لا تزال موادها مقبولة حتى الآن – وإذ بالربّ يلقي وصاياه العشر التي لا تأتي بأشياء أهم منها؟ وهنا يمكنك القول: بالتأكيد، لكن منع ارتكاب أعمال شائنة يعني تحريم النكاح خارج إطار الزواج. هل أنت متأكّد من أن الأمر كان هكذا حقاً؟ ما هي الأفعال الشائنة بالنسبة للعبرانيين؟ كانت لديهم قواعد صارمة للغاية، فمثلاً، لم يكن يسمح لهم بتناول لحم الخنزير، ولا الأبقار التي تذبح بطرق معينة، بل وسمعت أيضاً أنه يحرم عليهم تناول السمك الصغير. لذلك فإن الأفعال الشائنة هي جميع الأشياء التي حرّمها الناس الذين يمسكون زمام السلطة. وما هي؟ جميع الأشياء التي عرّفها الأشخاص ذوو السلطة بأنها أفعال شائنة. فقط تطلع حولك، "فقد زعم ذو الرأس السمين أن من المشين أن تتحدث بالسوء عن الفاشية، وأنه سيرمي بك في السجن إن أنت فعلت ذلك. من المشين أن تكون عازباً، لذلك يتعين عليك أن تدفع ضريبة العزوبية. ومن المشين أن ترفع علماً أحمر، وإلى ما هنالك. ونأتي الآن إلى الوصية الأخيرة: لا تشته أشياء الناس الآخرين. لكن هل سبق وسألت نفسك لماذا وضعت هذه الوصية، مع أنه توجد وصية لا تسرق؟ فهل إذا اشتهيت الحصول على دراجة مثل الدراجة التي يمتلكها صديقك، خطيئة؟ لا، لا إذا لم تسرقها منه. وسيقول لك دون كونياسو إن هذه الوصية تمنع الحسد، وهو بالتأكيد أمر ذميم. لكن هناك حسد سيء وهو عندما يمتلك صديقك دراجة ولا تمتلك أنت دراجة، وتتمنّى أن يسقط منها وهو يهبط التل وتُدق عنقه، وهناك حسد جيد، وهو أنك عندما ترغب في اقتناء دراجة مثل دراجته فإنك تبذل كلّ ما بوسعك لتتمكن من شراء واحدة، حتى لو كانت مستعملة، فهذا هو الحسد الجيد وهو الذي يجعل العالم يسير ويتقدم. وهناك حسد آخر، وهو حسد العدالة، وهو عندما لا ترى سبباً يجعل عدداً قليلاً من الناس يملكون كلّ شيء في حين يموت الآخرون جوعاً. فإذا شعرت بهذا النوع الجيد من الحسد، وهو حسد اشتراكي، فإنك تنهمك في صنع عالم توزع فيه الثروات توزيعاً أفضل. لكن هذا ما تمنعك الوصية من عمله: لا تشته أكثر مما لديك، واحترم قاعدة الملكية. ففي هذا العالم يوجد الذين يملكون حقلين من الحبوب فقط لأنهم ورثوهما، وهناك الذين يكدحون في تلك الحقول للحصول على كسرة خبز، ويجب على الذين يكدحون ألا يشتهوا حقول المالك، وإلا فستتهدم أركان الدولة وتندلع ثورة. وتحظر الوصية العاشرة حدوث ثورة. لذلك، يا ولدي العزيز، لا تقتل ولا تسرق من الأطفال الفقراء مثلك، لكن امضِ واشتهِ ما أخذه الآخرون منك. فهذه شمس اليوم القادم، ولهذا السبب يربض رفاقنا في الجبال، للتخلّص من ذي الرأس السمين، الذي صعد إلى السلطة بأموال الإقطاعيين وبواسطة متملقي هتلر، هتلر الذي أراد أن يغزو العالم لكي يتمكن ذلك الرجل كروب الذي يبني بيرثاس طوال هذه المدة من بيع عدد أكبر من المدافع. أما أنت، فكيف تستطيع أن تفهم هذه الأمور، أنت الذي نشأ على حفظ قسم الطاعة لأوامر الزعيم عن ظهر قلب؟"
 "لا، إني أفهم، حتى لو لم أكن أفهم كلّ شيء".
 "بالتأكيد أرجو ذلك".
 في تلك الليلة حلمت بالزعيم.

 في أحد الأيام، رحنا نمشي عبر التلال. ظننت أن غرانيولا سيحدّثني عن جمال الطبيعة، كما فعل في السابق، لكنه لم يحدثني في ذلك اليوم إلا عن الأشياء الميتة: روث البقر الجاف، والذباب الذي يصدر طنيناً حوله، وعن شجرة كرمة مصابة بالعفن، وعن صفّ من اليرقات تسير في موكب لتقتل شجرة، وعن نباتات البطاطا ذات العيون الأكبر من الدرنات التي لم تعد صالحة للأكل الآن، وعن جيفة ملقاة في خندق، متعفنة إلى درجة لم تعد تعرف هل كان سمّوراً أو أرنباً برياً. وكان يدخّن سيجارة بعد أخرى من نوع ميليت، الممتازة للإصابة بالسل، والتي كان يقول إنها تطهّر رئتيك.
 "كما ترى أيها الفتى، إن الأشياء الشريرة تهيمن على العالم. في الواقع، كلمة الشرّ بأحرف مشددة. وأنا لا أتحدّث هنا فقط عن شرّ الإنسان الذي يقتل أخاه الإنسان من أجل بضع قطع نقدية صغيرة، أو عن الشرور التي ارتكبتها قوات الصاعقة  التي شنقت رفاقنا. بل إني أتحدّث عن الشرّ نفسه، ذلك الشيء الذي جعل رئتي تتعفنان، الذي يجعل المحصول يفسد، أو الشرّ الذي يجعل عاصفة من البَرَد تحوّل رجلاً يمتلك مزرعة من الكرمة ولا يملك شيئاً آخر غيرها إلى رجل بائس. هل سألت نفسك ذات يوم لماذا الشرّ موجود في العالم، وخاصة الموت، بينما يحبّ البشر أن يعيشوا فترة أطول، ويأتيهم الموت ذات يوم جميل وينتشلهم، سواء أكانوا أغنياء أم فقراء، حتى الأطفال الرضع؟ هل سمعت أحداً يتحدّث عن موت الكون؟ لقد قرأت وأنا أعرف: الكون، أعني الكون كله، النجوم، الشمس، درب التبّانة، تجري وتجري مثل بطارية كهربائية، لكنها مع مرور الزمن ستضعف، وتتوقف ذات يوم. وينتهي الكون. إن شرّ الشرور يتمثل في أن الكون نفسه محكوم بالموت. يمكنك أن تقول منذ الولادة. لذلك أيّ نوع من العالم هو العالم الذي يوجد فيه الشرّ؟ أليس من الأفضل أن يكون هناك عالم يخلو من الشرور؟"

(الصورة في الصفحة 347)

 "حسناً، نعم"، قلت متفلسفاً.
 "طبعاً، يمكنك أن تقول إن العالم قد ولد بالخطأ، وأن العالم مرض يصيب الكون الذي لم يكن حتى قبل مجيئنا، يبدو عظيماً، وذات يوم جميل، يظهر الجرح المفتوح الذي هو نظامنا الشمسي، ونحن معه. أما النجوم ودرب التبّانة والشمس، فهي لا تعرف أنه محكوم عليها بالموت، لذلك فهي لا تكترث بذلك. أما نحن، الذين ولدنا من مرض الكون هذا، فقد كان من سوء حظنا أننا كنا فتياناً أذكياء، ولكي نفهم ذلك فقد كتب علينا الموت. لذلك فإننا لسنا ضحايا الشرّ فقط، بل إننا نعرفه. إنه شيء يدعو إلى البهجة".
 "لكن الملحدين هم الذين يقولون إن العالم لم يخلقه أحد، وأنت تقول إنك لست ملحداً..."
 "لا لست ملحداً لأني لا أستطيع أن أجعل نفسي أعتقد أن كلّ هذه الأشياء التي نراها حولنا – الطريقة التي تنمو فيها الأشجار والثمار والنظام الشمسي وعقولنا – قد حدثت بالصدفة. بل صُنعت باتقان. لذلك، لا بد أن يكون هناك عقل خالق. الله".
 "ثم؟"
 "ثم، كيف يمكنك أن توافق بين الله والشرّ؟"
 "لست متأكداً، دعني أفكّر بالأمر".
 "آه نعم، يقول دعني أفكّر بالأمر، وكأن أعظم العقول لم تفكر بالأمر لقرون وقرون...".
 "وإلان انتهى تفكيرهم؟"
 " لا إلى شيء. قالوا إن الملاك المتمرد جلب الشرّ إلى العالم. هل هذا صحيح؟ فالله الذي يرى ويعرف ماذا سيحدث، ألم يكن يعرف بأن الملائكة المتمردة ستتمرد عليه؟ لماذا خلقها إن كان يعرف أنها ستتمرد عليه؟ مثل هذا هو مثل شخص يصنع إطارات سيارات ويعرف سلفاً أنها ستنفجر بعد مسافة كيلومترين. سيكون أحمق. لكن لا، فقد استمر في خلقها، ثم كان سعيداً، انظروا ما أذكاني، حتي إنني أستطيع أن أخلق الملائكة ... ثم انتظرها حتى تثور (لا شكّ أنه كان ينتظر خطوتها الأولى) وألقى بها في الجحيم. لو كان الأمر كذلك، لكان وحشاً. وللفلاسفة الآخرين رأي مختلف: فالشرّ ليس موجوداً خارج الله، بل موجود في داخله، مثل مرض، وهو يسلخ دهراً في محاولة تحرر نفسه منه. ربما كان يعرف كيف تسير الأمور. لكن بما أنني أعرف أنني مصاب بالسل، فإني لن أنجب أطفالاً إلى هذا العالم، لكي لا أخلق تعساء آخرين، لأن السلّ ينتقل من الأب إلى الابن. ومع أن الله، يعرف أنه مصاب بالمرض الذي يعاني منه، فإنه صنع عالماً، في أحسن الأحوال، يهيمن عليه الشرّ؟ هذا شرّ مطلق. وعلاوة على ذلك، يمكن أن ينجب أحدنا طفلاً دون قصد، إذ يمكن أن يكون طائشاً قليلاً ذات ليلة ولا يستخدم واقياً ذكرياً، أما الله فقد خلق العالم لأن هذا تماماً ما كان يريد أن يفعله".
 "وماذا لو انزلقت منه الأمور؟"
 "أتظن أنك تمزح، لكن هذا هو تماماً هو ما فكرت به بعض العقول الذكية الأخرى. فقد انزلق العالم من يد الله كما ينزلق البول منا. فالعالم نتيجة سلس بوله، مثل رجل مصاب بتضخم في البروستات".
 "ماهي البروستات؟"
 "لا يهمّ، لنفترض أني ضربت مثلاً مختلفاً. ماذا يهم لو انزلق العالم منه، ولم يتمكن الله من أن يحبسه في داخله، وهذا كله نتيجة الشرّ الذي يحمله في داخله – هذه هي الطريقة الوحيدة لإيجاد عذر لله. إننا غارقون في الخراء حتى آذاننا، لكنه ليس في حال أفضل من حالنا. على أي حال، فإن جميع الأشياء الجميلة التي يحدثونك عنها في الكنيسة تبدأ بالسقوط، كالفاكهة التي نضجت كثيراً، أشياء عن الله بأنه الطيب، الكامل، الذي خلق السموات والأرض. لقد خلق السموات والأرض تماماً لأنه لم يكن كاملاً. لذلك جعل النجوم مثل البطاريات التي لا يمكن إعادة شحنها".
 "رويدك، ربما خلق الله عالماً كتب فيه على الذين يعيشون فيه مثلنا الموت، لكن لنقل إنه خلقه بمثابة اختبار، لكي يجعلنا نفوز بالجنة، وبعدها س\نجد سعادة أبدية".
 "أو نحترق في نار جهنم".
 "الذين يستسلمون منا لإغراءات الشيطان".
 "أصبحت تتحدث مثل القساوسة، الذين يتحدثون جميعهم بنيّة سيئة. فهم يقولون، مثلك، إن الشرّ موجود، لكن الله منحنا أعظم هدية في هذا العالم وهي إرادتنا الحرّة. فنحن أحرار في أن نفعل ما يطلبه الله منا، أو ما يغوينا الشيطان بعمله، وإذا انتهى بنا المآل في جهنم، فهذا لأننا لم نخلق عبيداً بل رجالاً أحراراً، وربما نكون قد استخدمنا حريتنا بطريقة غير جيدة، لكن هذا من صنع أيدينا".
 "تماماً".
 "تماماً؟ لكن من قال لك إن الحرية عطاء؟ بمعنى آخر، احذر من خلط الأمور. إذ إن رفاقنا في الجبال يناضلون من أجل الحرية، لكن رجالاً آخرين يريدون تحويلهم إلى آلات صغيرة. إن الحرية شيء جميل بين رجل وآخر؛ ولا يحق لك أن تجعلني أفعل وأفكر كما تريد. بالإضافة إلى ذلك، كان رفاقنا أحراراً في أن يقرروا هل سيصعدون إلى الجبال أو يختبؤون في مكان آخر. لكن بالنسبة للحرية التي منحني إياها الله، ما نوع هذه الحرية؟ الحرية هي إما إن أذهب إلى الجنة أو إلى جهنم، دون أن يكون هناك مكان وسط. لقد ولدت وأرغمت على أن تلعب لعبة الورق بريسكولا، وإذا خسرت فإنك ستعاني طوال الدهر. وماذا لو أني لم أكن أرغب في أن ألعب هذه اللعبة؟ ورغم أعمال ذي الرأس الكبيرة الشريّرة، فقد فعل في حقيقة الأمر بضعة أشياء جيدة أيضاً، فقد منع بيوت القمار، لأن الناس يشعرون بإغراء في تلك الأماكن فينتهي بهم الحال إلى تدمير حياتهم. لا تقل لي إن الناس أحرار في الذهاب إلى هناك أو عدم الذهاب. فمن الأفضل ألا توقعهم في الإغراء. لكن هنا خلقنا الله أحراراً وضعفاء إلى درجة لا تصدق، وعرّضنا للإغراء. هل تدعو هذا عطاء؟ ومثل هذا كمثلي لو رميتك إلى أسفل ذلك الجرف وقلت لك لا تقلق فأنت حرّ في أن تتمسك بشجيرة وأن تعود فتتسلق إلى الأعلى، أو أن تترك نفسك تهوي إلى الأسفل لتصبح لحماً مفروماً يتناولونه في ألبا. قد تسأل: لكن لماذا ألقيت بي إلى الأسفل فيما كنت أحسن حالاً في الأعلى؟ فأجيبك: لأرى مدى قوتك وتحملك. قبّرة جميلة. إنك لم تكن تريد أن تثبت مدى قوتك، بل كنت ستسعد بألا تسقط".
 "لقد بدأت تشوّشني الآن. بماذا تؤمن إذن؟"
 "إنه شيء بسيط، شيء لم يخطر ببال أحد من قبل: إن الله شرير. لماذا يقول القساوسة إن الله خير؟ لأنه خلقنا. لكنه لهذا السبب بالتحديد فهو شرير. والله لا يصاب بالشر كما نصاب نحن بالصداع. إن الله شرير. ربما، بما أنه أبدي، لعله لم يكن شريراً قبل بلايين السنين. لعله أصبح كذلك، مثل الأطفال الذين يشعرون بالضجر في الصيف، ويبدأون بنزع أجنحة الذباب، لتزجية الوقت. لاحظ كيف أنك إذا آمنت بأن الله شرير، تصبح مسألة الشر برمتها واضحة للغاية".
 "إذن جميعهم سيئون، حتى المسيح؟"
 "لا! فالمسيح هو الإثبات الوحيد على أننا نحن البشر على الأقل يمكننا أن نكون خيّرين. والحق أقول لك إني لست متأكداً هل المسيح هو ابن الله، لأنني لا أفهم كيف يمكن أن يكون رجل طيب مثله ابن أب شريّر بهذا الشكل. كما أني لست واثقاً من وجود المسيح ذاته. ولعلنا نحن من اخترعه، ولعل قدرة عقولنا على الإتيان بمثل هذه الفكرة الجميلة هي بحد ذاتها معجزة. أو لعله كان موجوداً، وأنه كان أفضل الرجال، وقال إنه ابن الله بنية حسنة، ليقنعنا بأن الله جيد. لكنك إذا قرأت الإنجيل بدقة، لأدركت في النهاية أنه حتى المسيح أدرك أن الرب سيء: فقد اعتراه الخوف عندما كان في جبل الزيتون وقال يا أبتِ إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، لكن الله لم ينصت إليه. وعندما كان معلقاً على الصليب صاح إلهي إلهي لماذا تركتني، لكن الله أدار له ظهره. بيد أن المسيح أرانا ماذا يمكن أن يفعل الإنسان ليعوّض عن شرّ الرب. إذا كان الربّ  شريراً، فعلينا نحن على الأقل أن نحاول أن نكون خيّرين، أن يسامح أحدنا الآخر، أن لا نؤذي بعضنا، أن نشفي المرضى، وأن ندير خدنا الآخر. يجب أن يساعد بعضنا بعضاً، بما إن الله لا يساعدنا. هل رأيت عظمة فكرة المسيح؟ تخيّل كم يجب أن تكون قد أغضبت الله. ما عدا الشيطان، فقد كان المسيح العدو الحقيقي الوحيد لله، وهو صديقنا الوحيد، نحن المساكين التعساء".
 "لا بد أنك أحد الزنادقة الذين أحرقوهم".
 "أنا الوحيد الذي يفهم الحقيقة، لكنني لا أريد أن أُحرق. ولهذا السبب لا أستطيع أن أقول هذا لجميع الناس، ولم أخبر أحداً غيرك بذلك. أقسم بأنك لن تخبر أحداً".
 "أقسم"، قلت، ورسمت شارة الصليب على شفتي بإصبعي.

 لاحظت أن غرانيولا كان يرتدي دائماً سترة جلدية طويلة، ويتدلى مبضع من رقبته تحت قميصه.
 "ما هذا يا غرانيولا؟"
 "مبضع".
 "هل كنت تدرس الطب؟"
 "كنت أدرس الفلسفة. لقد أعطاني المبضع طبيب في فرقتي في اليونان، قبل أن يموت. فقد قال لي: لم أعد بحاجة إليها. فإذ فتحت تلك القنبلة بطني، فإني أحتاج الآن إلى عدّة خياطة، كالتي توجد لدى النساء مع إبرة وخيط. لكن لا يمكن خياطة هذه الفتحة. احتفظ بهذا المبضع لتتذكرني. وأنا أضعه منذ ذلك الحين حول رقبتي".
 "لماذا؟"
 "لأني جبان. لأنني بسبب الأشياء التي أفعلها والأمور التي أعرفها، فإن فرق الصاعقة أو فرق الألوية السوداء ستعذبني. وإذا عذبوني فإني سأتكلّم، لأن الشرّ يخيفني. فأرسل بذلك رفاقي إلى حتفهم. لكنني بهذه الطريقة، إذا ما أمسكوا بي، سأقطع حنجرتي بالمبضع. إن ذلك لا يؤلم، ولا يستغرق سوى ثانية واحدة. سأغيظهم جميعهم: الفاشيين لأنهم لن يعرفوا شيئاً، والقساوسة لأني سأنتحر وهذا إثم بالسنبة لهم، والله لأني سأموت عندما أختار أنا وليس عندما يختار هو. خذ كلامي على علاته، سواء أشئت أم أبيت".


مترجم سوري مقيم في نيويورك

خاص كيكا
غير مسموح باعادة هذه المادة بدون الحصول على موافقة المترجم

ليست هناك تعليقات: