المشاركات الشائعة

الخميس، 16 ديسمبر 2010

رى تانهيل
العالم المتسع
ترجمة:
إيهاب عبد الحميد

رغم أن الكنيسة المسيحية كانت لا تزال على عهدها فى رفض كل من الجنس والمرأة بالقدر نفسه، بدأ القرن الثانى عشر يشهد بعض التغير. فالمرأة التى ظلت لعهد طويل صفرا على الشمال تحولت إلى "سيدة" نقية، بعيدة المنال، رمز للفضيلة، ومحل للإعجاب. كان ذلك أحد آثار لعبة "الحب النبيل" الذى تطور عن "الحب العذرى" لدى العرب، وكذا إحدى نتائج استيراد عقيدة "مريم العذراء" من بيزنطة. كان تغيرا شكليا فحسب، مع ذلك كانت له نتائج ثورية، خاصة وقد دعمه خطاب الكنائس الإصلاحية فى القرن السادس عشر بتأكيده على قيمة الأسرة، وأيضا الكشف العلمى فى القرن السادس عشر، الذى أكد أن منىّ الذكر – على عكس الاعتقاد الشائع منذ أيام أرسطو- ليس هو العنصر المحورى فى عملية التناسل. لم تعد المرأة إذن مجرد "حضّانة" لإنتاج الأطفال، وإنما أُمّا. أما القرن التاسع عشر فجاء ليدمج الأخلاقية والأمومية فى صورة جديدة للمرأة ظهرت فيها باعتبارها "ملاك المنزل"، وكانت النتائج السياسية لذلك مدهشة.

فى ذلك الوقت كانت أسبانيا قد قضت على اللواط فى أمريكا اللاتينية (وقيل إنه كانت منتشرا فيها كالوباء)، وعلى أرضها وطّنت عرقا أكثر صلابة تجرى فى عروقه دماء مختلطة. فيما كانت بريطانيا قد ضخت فى عروق الهند مجتمعا خلاسيا جديدا، مزعزعة فى الوقت نفسه دعائم الهندوسية حين وضعت تشريعات لحماية المرأة. أما الأمريكان البيض فكانوا قد بدءوا فى التحول عن انحيازاتهم الثقافية القديمة، إلى انحيازات أخرى قائمة على التفرقة على أساس لون البشرة، وشرعوا فى سن قوانين ضد الحب.

10- أوروبا من 1100 إلى 1550

"سيدى النبيل، أيهما تفضّل، أن يتحدث الناس بالسوء عن حرمكم ثم يتبين لكم نقاء معدنها؟ أم أن يتحدثوا عنها بالحسنى ويتضح لكم خبثها؟" فى فرنسا القرن الرابع عشر كانت الإجابة الصحيحة على هذا السؤال الإشكالى هو "أفضّل أن أسمع عنها حديثا طيبا وأعرف أنها ليست كذلك."

قبل مائتى عام من ذلك التاريخ، كانت هذه الإجابة لتدهش السائل- بل وتصيبه بالذهول- فما من فارس صليبى يحترم نفسه كان ليضع سمعة امرأته وصورتها أمام الناس فوق راحته النفسية. مع ذلك فإن الحملات الصليبية نفسها، التى تداخلت فيها غوايات الحرب والدين والسلب والنهب بطريقة لا يمكن مقاومتها، ساعدت ضمنا فى تحويل امرأة عصر الجلافة إلى "سيدة" عصر الفروسية.

كانت الفترة المحصورة بين بداية القرن الثانى عشر وأواخر القرن السادس عشر فترة مهمة فى تاريخ النساء، بل ربما كانت الأهم منذ العصر الحجرى الحديث، رغم أنهن فى نهايتها لم يتمتعن بالمزيد من الحقوق القانونية أو المالية أو الجسدية مقارنة ببدايتها. الاختلاف الوحيد الملموس طرأ على صورتهن. ففى بداية تلك الفترة كن محلا للازدراء، ليس فقط من قِبل الرجال، وإنما غالبا من جانبهن أنفسهن. أما فى نهاية تلك الفترة فقد اكتسبن الاحترام، بل والإعجاب. ربما لا يرقى الأمر لمستوى الثورة، لكن ذلك الانقلاب فى صورتهن فتح الباب أمام كل التغيرات التالية، مع الوضع فى الاعتبار أن التكيف النفسى والجينى لأولئك النسوة قد احتاج– بعد أكثر من خمسة آلاف عام من الدونية- إلى عدة مئات أخرى من السنوات قبل أن يظهر فى أكثر صوره راديكالية، بل إن ذلك التكيف– بالطبع- لم يكتمل حتى الآن.

اليوم، أصبحت الصورة مجرد بضاعة يمكن شراؤها من على الرف فى محلات "ماديسون أفينيو"•، وأصبح الجمال منتَجا من صنع الكمبيوتر، لا تبدعه الصدفة بقدر ما تنظمه المعادلات الرياضية. لكن ما هكذا تحقق التغير فى صورة المرأة، وإنما جاء هذا التغير كنتيجة عَرَضية لسلسلة متتالية من الأحداث التى ربما كانت– كل على حدة- بلا أى تأثير على الإطلاق. ربما كان ذلك التغير ملحوظا وقتها، لكن الأكيد أن مضاعفاته المستقبلية لم تكن فى الحسبان. واقع الأمر أن الرجل وقع فى نفس الخطأ الذى ارتكبته امرأة العصر الحجرى الحديث عندما لم تنتبه إلى تزايد اعتزازه بنفسه. فى تلك المرة، كان عقل الرجل هو المشغول بسموه الروحى، وقد غض الطرف عن تصاعد إحساسها بأهميتها لأنه ظن (إذا كان قد فكر فى الموضوع أصلا) أن هذا موضوع لا قيمة له. ولأسباب محددة جدا قام بتحويل "السيدة" إلى رمز للفضيلة، ولم يدرك أن الزمن سيدور، وسيكون عليه أن يعترف بوضعها الجديد، بل وأن يتخذ إجراءات عملية لتأسيس ذلك الوضع.

إن النظريات التى وُضعت حول العلاقة بين الرجل والمرأة فى العصور الوسطى كثيرة، ربما بعدد المؤرخين أنفسهم، ومن الصعب أن نقتفى أثر الخطوات التى سلكتها المرأة تحديدا كى يُسمح لها بالانضمام إلى الجنس البشرى. إن القصة هنا تتحرك فى نطاق التفاعلات الكيميائية الشخصية. كما تتحرك فى فترة تضافرت فيها عناصر معينة من الأدب والحياة بدرجة يبدو إدراكها مستحيلا بعد مرور قرون عدة. لكن توما الإكوينى ، وبيير فيدال ، وشيرتيين دى ترويز لم يكونوا ممثلين للحياة اليومية فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر أكثر من مارشال مكلوهان ، وفريق "ذا هو" وروزمارى روجرز فى القرن العشرين•. كان "الحب النبيل" هو التيمة الأهم فى أدبيات أواخر العصور الوسطى، كما كان التيمة الأهم أيضا فى حياة الطبقة العليا. لكن أحدا لا يعرف درجة التواؤم بين الاثنين.

إن كثيرا من العوامل التى ساعدت على تحويل "المرأة" إلى "سيدة" مايزال مجهولا، لكن بعضها يطل برأسه. وأحد تلك العوامل- دون جدال- هو خبرة الحملات الصليبية التى ساعدت على نضج المجتمع، فوفقا للتقديرات الحديثة انطلق نصف فرسان فرنسا إلى "الأرض المقدسة" أو إلى شمال أسبانيا فى حملات صليبية عامة أو خاصة على مدار الأعوام الثلاثين التى أعقبت عام 1097، وبعد بداية بطيئة نسبيا سارعت كل من انجلترا وألمانيا• إلى تصدير المتحمسين من مواطنيها إلى الحرب بأعداد كبيرة. وأولئك الذين وصلوا إلى الشام– بل حتى من لم تتجاوز أرجلهم أسبانيا أو صقلية- دارت رؤوسهم بما شهدوه من غرابة الإسلام، الذى كان– حتى فى فترات اضطرابه- لا يزال أكثر تقدما بكثير، وأكثر تحضرا بكثير من أى شىء رآه بارونات الغرب الأجلاف فى حياتهم. وحدها الحملة الصليبية الأولى حققت نجاحا باهرا. لكن محاربى الميليشيات الكنسية واجهوا صدمة حضارية، وعادوا إلى الوطن جالبين معهم غنائم عقلية لم يدركوها. لم يكن هناك أعظم من نظرة جديدة للحياة؛ لم يتجاوز الأمر حفنة من الأفكار والانطباعات وزيادة فى الوعى والقدرة على تقبل الجديد، لكنه كان كافيا ليجعلهم أكثر قابلية للتغيرات التى كانت قد بدأت تظهر بالفعل فى أوروبا.

فيما كان المحاربون الصليبيون يرون الحضارة الإسلامية رأى العين، كان الرجال الذين ظلوا فى أوطانهم – سواء لكبر أعمارهم أو لحداثة سنهم، لرقتهم وحساسيتهم، أو لأنهم لم يصدقوا الأهداف المعلنة للحملات- يجدون متعة جديدة فى إعادة اكتشاف علوم العالم الكلاسيكى وحكمته– بمساعدة أعمال العلماء المسلمين- بطرائقه القديمة الجديدة، بفلسفته القديمة الجديدة، بالعقيدة الإنسانية المشروطة التى أدركها الإغريق وغابت عن أذهان الرومان. وقد وصلهم كل ذلك بعد المرور من فلتر أسبانيا الإسلامية بمزيجها الثقافى، التى كانت صاحبة الفضل أيضا فى توصيل أشكال أدبية أصبح لها فيما بعد أثر مباشر على وضع المرأة فى أوروبا.

إن غياب الكثير من أفراد المجتمع الأقل تسامحا، وحضور أولئك الذين كانوا يمرون بعملية اكتشاف أفكار جديدة قائمة على التسامح والعقلانية، شكّلا فرصة ذهبية لنساء الطبقة العليا. حتى نهاية القرن الحادى عشر كان هؤلاء النسوة يعتمدن اعتمادا كاملا على آبائهن وأزواجهن وأبنائهن. بل إن إصرار الله على محاسبة آبائهن وأزواجهن عن أفعالهن كان يعنى أن الله نفسه ينظر إليهن باعتبارهن كائنات غير مسئولة. لكن فى فترة الحملات الصليبية وجدت كثير من الزوجات أنفسهن– بحكم الضرورة- مسئولات عن أراضى وبيوت أزواجهن، وسرعان ما تبين لهن أن إدارة الضياع والضرائب والأعشار، وبَعد ذلك السياسة، لم تكن أمورا كهنوتية مثلما كن يُلقّنّ دائما. كما تكشفت لهن أيضا مباهج الصحبة عندما كن يذهبن لعرض مشاكلهن فى ساحات العدالة- بلاط الدوق أو الملك- التى كانت أيضا مراكز المجتمع المعاصر، ومحافل الموضات والمواهب والنميمة والمؤامرات. ورغم أننا لا يمكن أن نقول إن الكنيسة قد شجعتهن على تلك الأنشطة، فقد ساعدت بالتأكيد فى إقرار أوضاعهن القانونية. فرجل القرن الحادى عشر الذى كان يملّ من زوجته كان يسهل عليه هجرانها، ولكن عندما وصلت قوانين الزواج إلى أيدى المحاكم الإكليريكية– التى كانت تحتقر الطلاق أكثر من احتقارها للزواج- توقفت تلك الممارسات على الفور•. كذلك كان ثمة توجه آخر أثّر فى ذلك الوقت على موقف كل من الكنيسة والرجال. ففى بيزنطة، كانت "مريم العذراء" لزمن طويل موضعا للتقديس، وكانت العقيدة التى تحمل اسمها قد عادت إلى أوروبا مع الحجاج والمحاربين الصليبيين والتجار فى أوائل القرن الثانى عشر. لقرون طويلة ساوت الكنيسة الغربية بين المرأة وحواء، التى كانت مهندسة سقوط الرجل من الجنة، وعندما حلت "مريم العذراء" فى النهاية محل حواء فى القرن الرابع عشر، كان فى ذلك أيما نفع للمرأة.

لقد تضافرت معظم تلك التأثيرات- فى أوقات مختلفة- فى تلك اللعبة غير التقليدية التى تطورت خلال النصف الأول من القرن الثانى عشر، لعبة الحب النبيل ، التى بدأت كتقليد أدبى، لكنها سرعان ما انتقلت إلى عالم الحقيقة: الحالة الكلاسيكية التى تصبح فيها الحياة تقليدا للفن. لقد كان الحب النبيل قائما على التوافق الطبقى، كان نوعا من اللهو، من المشاعر التى نراها فى مسلسلات الحب التلفزيونية الحديثة، ضربا من العلاقات المثالية بين سيدة ذات حسب ونسب، وفارس رومانسى، حلم يقظة جميل يكسر رتابة الساعات البطيئة. مع ذلك فقد قدم نمطا جديدا من السلوك أصبح له أثر مباشر وقوى على أوضاع النساء.
[/align]

________________________
الهوامش
• ماديسون أفينيو: ارتبط اسم تلك المنطقة بمنهاتن- نيويورك بصناعة الإعلان فى الولايات المتحدة. (المترجم)

• القديس توما الإكوينى (عالم لاهوت وفيلسوف)، بيير فيدال (شاعر/طروبادور)، شريتيين دى ترويز (شاعر)، مارشال مكلوهان (ناقد وفيلسوف)، ذا هو (فريق روك إنجليزى)، روزمارى روجرز (كاتبة روايات الرومانس)، والمقصود من هذه المقارنة أن النماذج التى تقتطفها الكاتبة من كل عصر، لا تمثل بالضرورة وجهة النظر السائدة فى ذلك العصر، بقدر ما تمثل بدايات لأنماط معينة من التفكير. (المترجم)
• بحلول الحملة الصليبية الثالثة كان يجرى تصوير "المتمارضين" وهم يحملون المغزل والصوف– المقابل للريشة البيضاء فى العصور الوسطى- كنوع من التلميح على أن كل من يرفض المشاركة فى الحملة سوف ينحط إلى مستوى النساء، وستصبح وظيفته مثل وظيفتهن. لكن ذلك لم يكن عدلا بالنسبة للنساء، فقد شارك عدد كبير منهن– قيل إن من بينهن آلاف المومسات- فى تلك الحملات.
• باستثناء قضايا الأزواج الأثرياء بالطبع، حيث يصبح الزواج والطلاق مثل فيشات رهان دينية وسياسية.

ليست هناك تعليقات: