المشاركات الشائعة

الخميس، 16 ديسمبر 2010

كبريـــــــاء
ابراهيم فرغلي

لست في حالة جيدة. مزاجي متعكر، لدرجة تمنعني، حتى، عن محاولة الانشغال بما قد يزجي الوقت، ويخفف من ثقل عقارب الساعة، التي تبدو كأنها تعاند الزمن.
نظرتُ باتجاه الساعة، واكتشفت أنَّ ساعة كاملة مرت على الموعد. بدأتْ متوالية: القلق، التوتر، الغيظ، العصبية غير المبررة، ثم الغضب، الذي زادت حدته عندما تذكرتُ أن هذه هي المرة الثانية، على التوالي، التي تتأخر فيها على الموعد دون أن تعتذر.
لا أشعر أن لدي طاقة لتبرير غيابها هذه المرة. ولا لدي الجرأة لمواجهتها بذلك حال وصولها. الفعل الوحيد الذي استطعت اقترافه هو إشعال سيجارة، بينما أواجه الوقت الضائع - وجها لوجه- أناطح الزمن، الصبر، الانتظار، الفراغ، الترقب، اللاجدوى.
للحظة أدركت إمكانية مقاومة الزمن الضائع، والتعامل معه بوصفه موجودا، أي بوصفه زمنا حقيقيا، وشحذت مخيلتي:
بدأتُ بتخيل الثياب التي قد يروق لها أن ترتديها. إخترتُ لها تَنُّورتَها "الجينز" القصيرة، لأنها تضفي عليها حالة من الأنوثة الصاخبة؛ إذ تبرز جمال ساقيها؛ ذاتا السمانتين المدملجتين، وتي شيرت ملون بألوان تتراوح بين الأرجواني والأبيض والأزرق والأخضر.
عندما تخلع الجاكيت الأبيض الجينز سأدرك أن الـ"تي شيرت" بلا أكمام؛ ما يتيح لي تأمل كتفيها العاجيين، المكتنزين. ستعقص شعرها الأسود الطويل، وتترك خصلات من أطرافه تنسدل على الكتف، وهو ما يتيح تأمل الجزء الرقيق من رقبتها، تحت الأذن، وأنا أسير خلفها بعد أن أتلقى قبلتيها الرطبتين على وجنتي.
ستتحرك وهي تحاول أن تبدي عدم اكتراثها بي، ثم تجلس على الأريكة المواجهة لباب الشقة، لاهثة، حتى تلتقط أنفاسها. ستغمض عينيها وتقول بنبرة عتاب هامسة : "مش هتصلحوا الأسانسير بتاعكم ده؟"، وقبل أن أجيب ستسألني أن أحضر لها كوب ماء. سأقترب منها لأداعب وجنتيها. لكنها ستمسك يدي، بحسم، وتؤكد لي أنها عطشانة.
بوصولي للثلاجة سوف يأتيني صوتها بكلمات مبهمة. سأحاول كتم ضحكتي في أثناء إجابتي عليها بأنني لا أسمعها جيدا؛ إذ أعرف أنها تحاول إثبات معاناتي متاعب في السمع، منذ مازحتها مرة، بقولي أن سمعها ضعيف، في إحدى سهراتنا الصاخبة.
لم تقبل الدعابة، واعتبرتها محاولة للسخرية منها. وتحولت السهرة من المرح، إلى العتاب، ومحاولة انتهاز أي فرصة للنيل مني . ولاحقا، وفي مناسبات عدة، كانت تتعمد أن أبتعد عنها، لترفع عقيرتها بكلمات بلا معنى، وعندما أطلب منها أن تكرر ما تقوله، تهز كتفيها بلا اكتراث وتقول، وملامح الضيق مرسومة على وجهها: أنها ليست مستعدة أن تكرر ما تقوله عشرات المرات حتى أسمعها.
ستتردد ضحكتي في الطرقة الطويلة الخالية من أي أثاث. سأندهش قليلا من وقع صوت الضحكة التي تنتهي بقعقعة يعقبها صرير. وعندما أعود بالكوب الزجاجي الخالي، وزجاجة المياه الباردة. ستلتقطها مني، دون أن تنظر لي.
عندما تنتهي من رشف آخر قطرة مياه ستمد لي يدها بالكوب. وسوف أسألها وأنا أتأمل جمال ساقها المرفوعة فوق الأخرى: "عايزة مايَّه تاني؟" فتسدد لي نظرة عتاب قاسية. عندئذ سأدرك أنني نقضت عهدنا بالتحدث باللغة الإنجليزية فقط، وهذه قصة يطول شرحها على أي حال. ولعلني سأعاود السؤال بصيغته المثلى بالنسة لها: "هل تريدين مزيدا من الماء؟" ومن المؤكد أنها ستهز رأسها بالنفي.
تعرف كراهيتي للانتظار المتلكئ في الركن المواجه للباب؛ متوترا، بلا أدنى قدرة على التجاوب معها. فهذا الركن يجعلني أخشى أن يتنصت الجيران على الصوت النسائي الذي يتردد في شقة جارهم العازب. ومع ذلك ستستمر جالسة في مكانها حتى يصيبني الملل.
لكني لن أبدي تذمرا، حتى لا تستفزني بأي كلمة، إذ أنني،آنئذ، سأدير لها ظهري فورا، متجها إلى غرفتي في نهاية الممر الطويل إلى اليسار. لكن الأمر سينتهي، كالعادة، في المسار الذي تفضله هي: سأنزعج من استفزازها وأتجه للغرفة.
لن يعجبها تجاهلي لها على هذا النحو، بطبيعة الحال، فتقرر أن تنصرف، وهو ما أتأكد منه بينما أسمع طرقة الباب المكتومة، كأنها بصمة العناد التي تسم حياتها. وبطرقة الباب، تلك، تنطلق إشارة البدء لمرحلة من التوتر والترقب، ومحاولات الصلح العبثية، بعد يومين كاملين لا ترد خلالهما على هاتفي.
فكرت للحظة: ما الذي يجعلني ألتصق بها طالما أنها تبدو مستفزة وتتقمص دور القنبلة الموقوتة هذا؟ أستمتع معها بممارسة الجنس؟ حتى لو كان بالطريقة الشاذة التي تفترض هي أنها ممارسة ؟ نعم، أعتقد ذلك. أو لأكن أكثر دقة وأقول أنني أحب جسمها. كنت أظن قبلها أنني أحب النحيفات، لكن تبين لي؛ منذ تعرت أمامي لأول مرة، أن جسدها المدملج المكتنز، هو الجسد النموذجي. ثمة مسحة عاطفية في تعري جسدها هذا، فيض من تيار عاطفي خفي يشع من الجسد، ويستفز التعاطف والحنو، مع حس إيروتيكي، تفصله شعرة عن الاهتياج الشهواني. فكرت كثيرا في ذلك، خاصة وأنني استسلمت لقانونها الذي يمنع اللمس بلا كثير من الجدل.
أعتقد أن هذا الإحساس يعود لأن روحها تتحرك في مساحة أكبر، قد لا تتاح لأرواح النحيفات. أو ربما أن الجسد المبطن بالدهون يشحن صاحبته عاطفيا بدرجة أكبر من الجسم الجاف الخالي من الدهون. أعتقد أنني سمعت هذه الجملة في أحد الأفلام. لكني لم أعد أذكر منه شيئا سوى هذه الجملة.
اكتشفت أن لون جسدها القمري هو لون البشرة المثالية وليس لون القمح. واستهواني التناقض الحاد بين لون بشرتها القمري، ولون شعرها الذي يذكرني بلون الكحل، والليل، والداخل العميق.
نعم كنت أعتقد أن الداخل العميق، في المنطقة التي تسكنها الروح، هي منطقة ظلام دامس، كتلك التي تعيش فيها كل الأعضاء العظيمة: القلب الذي يرتبط بالحب والمشاعر، وكل الإيحاءات العاطفية المبهجة، بينما يعيش هو في حلكة الظلام. والرئتان اللتان ترتبان مرور النيكوتين إلى الدم، وتمنحني الشعور الرائع بالنشوة.
وضعت يدي على علبة السجائر "المارلبورو" الحمراء بجواري، لألتقط سيجارة أخرى، لاستدعائي فكرة التدخين. دون أن أنتبه أن سيجارتي ما زالت مشتعلة في المطفأة. انتشيت لإحساسي بأن لدي موضوعاتي الخاصة للنشوة دون احتياج لأحد.
هل أنتظرها الآن لأنني مشتاق إلى فعل الحب معها ؟ لكي أستمع إلى صرختها الأخيرة التي تكتمها طوال فعل الحب الاستعرائي، الذي تفرضه علينا، ولا تطلقها إلا بعد وصول جسدانا-إفتراضيا- إلى ذروة احتراقهما بالأورجازم ؟ الإجابة هنا هي بالنفي التام. فغريبة أطوار مثلها؛ لها دائما شروطها الخاصة، وفي هذه الحالة هو" ممنوع اللمس"، مما يجعل الأورجازم، وفعل الحب معها، ليس سوى عملية افتراضية محضة.
أم تراني أشتاق لعريها الذي يبهجني جماله؟ أو ربما للألفة التي لا تتاح لي مع غيرها، حيث أستمع لثرثراتها التافهة بشغف، وبلا تعليق، متخلصا من كدري، ومعاناتي أيا كانت. هل هذه تخريجات لمازوخية متأصلة في لاوعيي كانت تبحث عن فرصة للظهور؟ ربما.
هل أحبها؟ كان السؤال مباغتا وملحا. لكني ابتسمت لأنني لم أسأله لنفسي في مواجهة مرآة الحمام. ففي الحمام تكون لحظات الصدق النادرة مع النفس التي أواجه بها نفسي أمام المرآه . عادة ما أدقق فيها النظر لأسأل نفسي الأسئلة الصعبة التي أصل لإجابتها بلا مراوغة، إذا ابتسمت لنفسي بخبث، أو بدوت أبلها بلا قدرة على الفهم.
هل الضيق الذي أشعر به الآن يعود لإحساسي أنها تعرف، بيقين كامل، عن انتظاري لها هنا؛ متوترا، وقلقا. أذرع الشقة يمينا ويسارا، أحترق بخيبة الأمل، بينما هي من مكان قصي، تنتشي بسعادة احتراقي في شهوتي وقلقي. أم أنني بالفعل أشعر بالضيق لأنني أفتقدها، ولأنني سمعت صوتها في أحلامي المضطربة ليلة أمس؟
أخذت سيجارتي إلى غرفة المعيشة القريبة لمدخل الشقة، رفعت صوت التليفزيون. كانت الشاشة تعرض برنامجا حواريا على قناة الجزيرة. قلبت القنوات بالـ"ريموت" حتى لمحت "روبرت دي نيرو"، فانتبهت، وقررت أن أتابع الفيلم حتى النهاية.
غفوت في أثناء عرض الفيلم. استيقظت على رنين الهاتف الموجود في غرفة النوم، فاتجهت إليها بخطوات متعثرة، وثقيلة. رفعت السماعة وكان صوتها الناعس مفاجئا ومربكا، إذ كانت نبرته مبحوحة قليلا .
أربكني ذلك؛ لأن هذا ما يحدث لصوتها عندما تكون مستثارة عادة. برق بذهني خاطر أنها مرت بعلاقة جسدية مع شخص غامض لا أعرفه. لكني استبعدت الخاطر السخيف من ذهني بسرعة. "مساء الخير".."مساء الخير"."إنت كنت نايم؟". "أيوه" . "آسفة إني صحيتك، بس أنا تعبت شوية ونمت والظاهر ماما قفلت الموبايل عشان كده ماعرفتش إنك اتصلت إلا لما صحيت". "سلامتك". "الله يسلمك". "أنا آسفه إني صحيتك..بس كان لازم اعتذر لك، وكمان في حاجة غريبة حصلت". "خير..إيه اللي حصل؟" . "إنت ما شفتش تليفزيون النهاردة؟". "لأ". "معقولة ؟ ". "ما كانش عندي وقت، خير؟ قولي لي إيه اللي حصل". "أصلهم بيقولوا إن روايات نجيب محفوظ اختفت من البلد!". "إيه ؟ يعني إيه اختفت من البلد ؟". "مش عارفة..بس بيقولوا ان المكتبات كلها اتفاجئت إن مافيش أي واحدة عندها نسخة من أي كتاب لمحفوظ".
ضحكتُ، وكنت بدأت أشعر باستعادة وعيي..قالت: "بتضحك على إيه؟". "مش عارف.. أصل الموضوع غريب قوي.. إنت صاحية شوية؟" ."أيوه". "طيب أنا هاعمل قهوة في خمس دقايق واكلمك على طول". "أوكي بس ما تتأخرش". "خمس دقايق". "أوكي". "باي". "باي".



2

فتحتُ جهاز التليفزيون، وطفقتُ أبحث عن أي محطة إخبارية؛ "الجزيرة"،"العربية"،"الحرة"،"الحوار"، ثم البرامج الأجنبية: "سي إن إن"، "بي بي سي". لا أثر لأي خبر عن غياب كتب نجيب محفوظ. ابتسمت بسخرية لأنني، بكل سذاجة، صدقت ما قالته لي بلا مراجعة.
لا تتعب من "اشتغالي"، وأنا لا أكل من لعب دور الساذج، الذي يأخذ الأمور كلها بجدية، تجعل منه مادة سخرية جذابة في أغلب الدوائر التي يتحرك فيها، بما فيها الدائرة الضيقة الخاصة التي لا يوجد فيها سواي وسواها.
هذه هي شخصية نجوى بامتياز: غريبة الأطوار، متقلبة المزاج، ذات الاستعداد المَرَضي للنزعات الهيستيرية؛ مثل أغلب الفتيات اللائي وقعت في حبهن؛ المتطلبة، بينما تؤكد لي بمرح أنها مرنة جدا، وأن بإمكانها أن تتكيف مع كل الأجواء.
تقول أنها كانت فتاة خجولا، هادئة، في طفولتها، بينما لا تقترح عليَّ سوى أكثر الملاهي الليلية صخبا، لكي نسهر فيها. تقول أنها لا تحب سواي، بينما تَقُّص لي، بين آن وآخر، علاقة غرامية عابرة مرت بها، بشكل يوحي أنها لم تفعل شيئا آخر طوال مراهقتها إلا اصطياد العشاق.
تحدثني عن تواضعها وبساطتها، ثم تمارس نوعا من نزع الاعتراف بالقوة لأؤكد لها أنها جميلة، وأن جسدها هو أجمل ما شاهدته، وأن ردفيها أجمل ما رأته عيناي.
من جهتي كنت أردد ذلك، مقهورا، ليس لأنني لا أصدق ما أقوله، وإنما لأني أقوله تحت ضغط نرجسية لا تتخلى عنها حتى في أثناء أكثر لحظات نشوتها. وربما شذوذها، نعم، وكالعادة استدرجتني لمنطقها، وأصبحت أصدق أن ما نفعله هو ممارسة جنسية، بينما أن الأمر لا يعدو كونه طقسا للاستعراض.
تتعرى، تدريجيا، وهي تتحرك هنا وهناك؛ كأنها تتمشى في غرفتها بمفردها. بعد ذلك تجلس على الفراش أو أريكة غرفة النوم المواجهة للمكتب، وفقا لمزاجها، ثم تتيح لي، بكرم بالغ، ان أتأملها كيفما شئت، وأقصى ما يتاح لي أن تستجيب لمطالبي في أن يأخذ جسدها أي وضع أطلبه منها.
أما الشرط الذي بموجبه تمنحني عريها هذا بهذه الأريحية هو "ممنوع اللمس". "إذا لمستني هالبس هدومي وامشي، ومش هتشوفني تاني أبدا".وهذه هي الجملة الوحيدة التي تنطقها بالعربية، مع استثناء مكالماتنا الهاتفية، لأنها ربما الجملة الوحيدة التي تخرج من أعماقها بلا فلترة، ولا تحذلق، ولأنها تعنيها بصدق يفوق الكثير مما تقوله من قبيل اللغو أو الثرثرة.
*******
انتهيتُ من إعدادِ القهوة، وانحسرت رغبتي في مهاتفتها. عاودني شعوري بالغبن لأنها لم تعتذر، حتى، عن عدم حضورها في الموعد. تلكأتُ بتدخين سيجارة، وانتابتني الرغبة في الاستماع للموسيقى. كأنني أحاول الهروب من أفكار سوداوية تلاحق رأسي.
هبطت معنوياتي فجأة. مثل حالة اكتئاب مباغتة، لا يناسبها إلا الاتجاه إلى الفراش، والنوم في الظلام محدقا إلى السقف، أعبره ببصيرتي، إلى السماء، أراها وتراني، لكني لا أريد أن أقول لها شيئا، وأنصت للسماء فلا تقول لي شيئا هي الأخرى.
لكن مخلوقا ضبابيا أزرق اللون، يحتل مساحة هائلة من حلكة السماء، يحدثني، بلا صوت، عن الرغبة، فأبتسم له في هدوء. فيعود ليقول، بلا صوت: أن الفضيلة، المعصية، الخطيئة، شرور النفس، الخيانة؛ هي التي يمكنها أن تحقق المتعة. الحياة لا مذاق لها إذا خلت من كل تلك الفضائل.
أضحك فيضحك. ولا أقوى أن أقول له شيئا. ويتوهج وجهي خجلا من السماء؛ التي بإمكانها أن تراني وأنا أضحك لكل ما لا تحبه. نعم، ستراني حتى لو كنت مختبئا تحت ألف سقف. وعندما يلاحظ خجلي يقول أنه لا يكره أكثر من الخجولين الأخلاقيين. أبتسم له فيغمز بعينيه.
أرفع سماعة الهاتف، وأتصل بالرقم. صفارة متقطعة. هذا يعني أن الرقم مشغول. أتجه إلى جهاز الهاي فاي، تنطلق عدة تكات من الصندوق الذي يضم الاسطوانات، ثم ينطلق صوت موسيقى "إنيجما" فجأة. "البحث عن مباديء الرغبة" هذا هو اسم الأغنية.
أعود للفراش وأطفيء النور قبل أن أضع رأسي على الوسادة متزامنا مع الإيقاع الذي بدأ.."مباديء الرغبة من السهل ان تفهمها..مباديء الرغبة طير في عقلك"..أعاود النظر إلى السماء، عبر السقف، أحدق به، يتحول لونه الأبيض في ظلام الغرفة إلى لون رمادي داكن. أركز نظري أكثر حتى أتمكن من اختراق طبقاته المادية، طابقا بعد الآخر، لأكشف حجب السماء. يظهر شيطاني، يغمز لي بعينيه. أسمع همسه في عقلي كالفحيح. ترى مع من تتحدث هي في ذلك الوقت من الليل؟ أشعر بنوع من القلق، يتحرك عفريت الغيرة في عقلي.
أرفع رأسي، وأتصل بالرقم مرة أخرى. ما زال مشغولا. يرتجف عفريت الغيرة ارتجافة أشد من الأولى، وأشعر بدق مباغت في رأسي. ترى مع من تتحدث؟ ألهذا السبب لم تحضر اليوم في الموعد؟
أعود بذاكرتي إلى المواقف التي دارت بيننا طول الأسبوع الماضي. أغلبها حوارات على الهاتف. ثرثرات أكاد لا أذكر منها شيئا: مشاكل العمل مع زميلاتها في البنك، وضغط تقفيل الحسابات السنوية، واضطرارها للعمل ثلاث ساعات بعد انتهاء المواعيد الرسمية بسبب عمليات الجرد. حلمها القديم في تصوير فيلم تسجيلي عن مصر الجديدة بالأسود والأبيض، وصفها المكرر لجمال منطقة "الكُربة" وعماراتها العتيقة الجميلة، وشوارع روكسي، الفيللات القديمة المتاخمة لل"كُربة"، المريلاند، صباحاتها في "شانتييه" (المقهى السويسري) مع جاراتها وزميلاتها في المدرسة ثم الجامعة، أو صباحاتها في نفس المكان على منضدتها المفضلة بجوار الجدار الداخلي، خلال الفترة التي كانت تتعلم فيها التدخين، وكتابة مذكرات وخواطر لها طابع حسي. أخيرا، وعدي لها بشراء كاميرا فيديو في عيد ميلادها، لكي تبدأ انجاز هذا المشروع الذي تتحدث عنه طول الوقت دون خطوة واحدة باتجاه إنجازه.
ليس في هذا كله ما يستدعي الريبة أو الشكوك. أطفأت السيجارة، وعاودت الاتصال. الهاتف مشغول."أحبك .. سوف أقتلك" أتاني صوت أغنية "إنيجما"، فارتعدت. خلعت قميصي والبنطلون ونمت عاريا. وقبل أن أغفو بقليل سمعت صوت تنهدات أنثوية كأنها امرأة تمارس الحب. تهيأ لي أنه مقطع من "مباديء الرغبة" كما يغنيها "إنيجما".
فتحت عيني ونظرت للسماء. وجدته، مرة أخرى، مرسوما على السقف؛ ظل أسود في هيئة سحابة عشوائية التكوين، تلتمع عيناه كما وهج نجم يخبو ويومض على بعد آلاف الأميال الضوئية. إقترح عليّ، شيطاني ذاك، أن أنصت جيدا لصوت تلك المرأة، وأن أعطي كل حواسي لهذا الإنصات، وأتخلص من سذاجتي المفرطة. ثم ضحك مرددا أن الشر هو الذي يعطي للحياة رونقها، لأنه هو الفضيلة.
علا الصوت بعد اختفاء خياله من على سقف الحجرة. شهيق وزفير، آهة مكتومة، ثم صرخة. ليست صرخة ألم، ولا حسرة. لكنها صرخة أفلتت من صاحبتها، إعلانا عن نقيض الألم. كأن الصوت هو إعلانها عن لذة الجسد ونشوته. أو أنه صوت جسد يحاول التخلص من خرسه، لكي يعلن عن حضوره. ويتجاوزمحيط وجوده عبر الظلام والغرف المغلقة.
كان الصوت، إذن، لامرأة شبقة تمارس الحب مع رفيقها، لكنها ممارسة تضفي على كل ما يقع في محيطها تأثيرا له سحر الأساطير، وتغريد الكروانات في الظلام، أو وقوع الشهب في ظلام الفضاء.
لكن ما هو مصدر الصوت؟ أين يكمن هذان العاشقان، ولماذا يلوذ "صانع الحب" بالصمت بينما رفيقته، لا تكف عن الصراخ؟ وبين آن وآخر، تغافلها شهقة ميت يرى ملاكه بغتة، لكن غلمتها، على ما يبدو، أقوى من كل قوة إرادتها في كبح صرخاتها التي تتردد في ظلام الليل، مثيرة جوا حسيا شبقيا، يستيقظ له الجيران جميعا.
ترتطم نوافذ غرف نومهم بالجدران. يتألق بياض عيونهم في الظلام الأسود؛ الذي تعمدوا أن يبلغ ذروته بإغراق البيوت به. بعد لحظات تتفجر، بلون أحمر خافت؛ كرات من وهج أحمر أسفل أنوفهم، ينفثون خلفها سحب الدخان من تبغ، يحاولون به أن يهدئوا نيران الرغبة، إذ تتحول شقق البنايتين المتقابلتين إلى كتلة من الشبق، كل يعبر عن شهوته التي تلح على الأجساد تنشد الذرى.
الشباب العزاب، وعشيقاتهن من بنات الجيران، يلتذون تحت أغطية فرشهم، يستحضر كل منهم رفيقه بقوة المخيلة. والزوجات يتعطرن ويفسحن الطريق للأزواج الهائجين، على يقين من أن حجج التعب اليومية لا مجال لها في ليلة كهذه.
أما الشيوخ والسيدات اللائي بلغن من العمر أرذله فيشحذون أذهانهم بالذكرى، ويراجعون تاريخا من مغامرات الأجساد التي ذوت، وبما تبقى لها من طاقة، راحت تقاوم غزو الأمراض في وهن، ليختبروا جميعا، ولفترة ستظل عالقة في أذهانهم للأبد، خبرة نسيان الألم- ألم المرض والشيخوخة وانتظار الموت- خلال رحلات الذاكرة؛ إلى صبوات الأيام الخوالي.
نهضتُ من الفراش وتوجهت إلى النافذة. نظرت عبر فتحات الشيش، فلم أر شيئا لافتا. فتحت النافذة بحرص.وتسللت بنظري. كانت أغلب نوافذ الجيران مغلقة، والغرف غارقة في الظلام. أصختُ السمع، وأدركت أن صوت تلك السيدة الشبقة قادم من صوب نافذة شقة الجيران المهجورة في العمارة المقابلة. ما زال صداه يتردد، رغم صمتها الذي ساد قبل فترة، بعد متوالية الصراخ؛ التي أحيت الجيران جميعا من موت المشاعر، وصمت الأرواح، ورتابة الملل، وأقنعة الزيف، ومرارة الواقع الذي كانوا يعيشونه قبل دقائق قليلات.

ليست هناك تعليقات: