فصل من كتاب
ديوان الصبابة
ابن أبي حجلة
الباب الرابع
ذكر من نظر أول نظرة فاحترق من خد الحبيب بجمرة
أقول هذا باب عقدناه لذكر من أوقعه النظر في الضرر المؤدي إلى السهر إذ هو داعية الأرق وزناد الحرق كم دعا إلى الجماع المحرم بالإجماع فهو سهم مسموم وفعل مذموم وفي مبدئه يمكن استدراكه وأسيره يرجى فكاكه فإذا تكرر أدى إلى ما صورته كيت وكيت أما ترى الحبل بتكراره البيت كما قيل:
كل الحوادث مبداها من النظرومعظم النار من مستصغر الشرركم نظرة فتكت في قلب صاحبهافتك السهام بلا قوس ولا وتروالمرء ما دام ذا عين يقلبهافي أعين موقوف على الخطريسر مقلته ما ضرّمهجتهلا مرحباً بسر ورجاء بالضررقولي وفي مبدئه يمكن استدراكه إلى آخره وذلك أن الرجل تمر به المرأة فيكون ظاهر هيئتها وشكلها وصورتها مشاكلاً لطبعه فتتحرك نفسه وتنبعث همته من أول نظرة فإذا تكرر نظره إليها ازداد حبه لها وإن جلس حتى يراها صار الذي به أضعاف ما كان فإن نظرت إليه نظرة افتتن بجمالها ووقع في أسر حبالها ودخل في عدد العاشقين وهذا مما يؤيد قول من ذهب إلى أن العشق اختياري لأنه لم يصر عاشقاً إلا بعد وقوع هذه المقدمات وكان يمكنه حسم مادة ذلك بعد النظرة الأولى اللهم إلا فيما ندر كما تقدم في ذكر النسوة اللاتي رأين يوسف عليه السلام ففتن من أول نظرة وكان يقال النظر من المحب موت عاجل ومن المحبوب سهم قاتل وكان يقال رب عشق غرس من لحظه وحرب جنى من لفظه وكان يقال من أطلق طرفة كثر أسفه وكان يقال من كثرت لحظاته دامت حسراته وقال إعرابي العشق نبت بذره النظر وماؤه المزاورة ونماؤه الوصل وقتله الهجر وحصاده التجني. وقال الصوري:
غرست الهوى باللحظ ثم احتقرتهوأهملته مستأنساً متسامحاولم تدر حتى أينعت شجراتهوهبت رياح الوجد فيه لواحقافأمسيت تستدني من الصبر عازباًعليك وتستدعي من النوم نازحاًوقال الأصمعي كنت في بعض مياه العرب فسمعت الناس يقولون: قد جاءت فتحرك الناس فقمت معهم فإذا بجارية قد وردت الماء ما رأيت مثلها قط في حسن وجهها وتمام خلقتها فلما رأت كثرة تشوف الناس إليها أرسلت برقعها فكأنه غمامة غطت شمساً فقلت لم تمنعينا النظر إلى وجهك هذا الحسن فأنشأت تقول:
وكنت متى أرسلت طرفك رائداًلقلبك يوماً أتعبتك المناظررأيت الذي لا كله أنت قادرعليه ولاعن بعضه أنت صابرثم نظر إليها أعرابي وقال أنا والله ممن قل صبره وأنشد:
أوحشية العينين أين لك الأهلأبالحزن حلوا أم محلهم السهلوأية أرض أحرجتك فإننيأراك من الفردوس إن فتش الأصلقفي خبرينا ما طعمت وما الذيشربت ومن أين استقل بك الرحللأن علامات الجنان مبينة عليكوإن الشكل يشبهه الشكلأقول هذا والله هو السحر الحلال والعذب الزلال قد اشتمل على مذهب السحر الكلامي والبدر السامي فكأني بها وقد ذكرت له الأهل ووصفت من حيها وخدها الحزن والسهل هنالك يأتيها سعياً على الرأس لا سعياً على القدم وتكون وجناتها أحب إليه من حمر النعم وينشد:
أريني مكان البدر إن أفل البدروقومي مقام الشمس إن بعد الفجرففيك من الشمس المنيرة ضوءهاوليس لها منك التبسم والثغرحكي أنه دخل أصبهان مغن كان يتغنى بهذين البيتين:
سماعاً يا عباد الله منيوكفوا عن ملاحظة الملاحفإن الحب آخره المناياوأوله شبيه بالمزاحقلت وفي هذا دليل على أن العين هي التي تجلب الحين وإذا كان كذلك فلنذكر هنا مناظرة وقعت بين القلب والعين ولوم كل منهما صاحبه والحكم بينهما وهي لما كانت العين زائدة ومحبة القلب زائدة وهذه لها لذة النظر وهذا له لذة الظفر كانا في الهوى شريكي عنان وفرسي رهان فلما وقعا في السهاد والحرق وأضر بصاحبهما الأرق قال القلب، يقول الأرجاني لطرفه الجاني:
تمتعتا يا مقلتي بنظرةوأوردتما قلبي أشر المواردأعينيّ كفا عن فؤادي فإنهمن البغي سعي اثنين في قتل واحدوقال أبو الطيب المتنبي:
وأنا الذي اجتلب المنية طرفهفمن المطالب والقتيل القاتلوقول الآخر:
عوقب قلبي وجنى ناظريوربما عوقب من لا جنىوقول الآخر:
نظر العيون إلى العيون هو الذيجعل الهلاك إلى الفؤاد سبيلاًما زالت اللحظات تغزو قلبهحتى تشحط بينهن قتيلاًوقول الآخر:
يا من يرى سقمي يزيدوعلتي أعيت طبيبيلا تعجيز فهكذاتجني العيون على القلوبوقال ابن مدرك:
جرحت بلحظي خدّ الحبيبفما طالب المقلة الفاعلهولكنه اقتس من مهجتيكذاك الديات على العاقلهفلما سمعت العين إنشاده وفهمت مراده أشاوت إليه وأخذت في الإنكار عليه فقالت يا للعجب من ظالم يتظلم وأخرس يتكلم أليس من الخبر الذي شاع وذاع أنك أنت الملك ونحن الأتباع ترسلني فيما تريد كالبرق وتعقب ذلك بالتهديد أما سمعت قول أبي هريرة رضي الله عنه القلب ملك والأعضاء جنوده فإن طاب الملك طابت جنوده وإن خبث الملك خبثت جنوده.
وقال سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله فبين ذنبي وذنبك إذ ذاك كما بين عماي وعماك.
وقال علام الغيوب " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب " فلما سمعت النفس ما دار بينهما من الجدال قالت في الحال.
أنا ما بين عدوّينهما قلبي وطرفيينظر الطرف ويهوىالقلب والمقصود حتفيوقال آخر:
يقول قلبي لطرفي إذ بكى جزعاًتبكي وأنت الذي حملتني الوجعافقال طرفي له فيما يعاتبه.بل أنت حملتني الأمال والطمعاحتى إذا ما خلا كل بصاحبهكلاهما بطويل السقم قد قنعانادتهما كبدي لا تعتبا فلقدقطعتماني بما لاقيتما قطعاوقال آخر:
عاتبت قلبي لمارأيت جسمي نحيلاًفالزم القلب طرفيوقال كنت الرسولافقال طرفي لقلبيبل كنت أنت الدليلافقلت كفا جميعاًتركتماني قتيلاقلت فكانا كما يقول العامة قفا بين صفاعين وما أحسن قول الآخر:
فوالله ما أدري أنفسي ألومهاعلى الحب أم عيني قريحة أم قلبيفإن لمت قلبي قال لي العين أبصرتوإن لمت عيني قالت الذنب للقلبفعيني وقلبي قد تشاركن في دميفيا رب كن عوناً على العين والقلب
المشاركات الشائعة
-
ابراهيم فرغلي م ا يراه النهد على جسر خشبي عتيق مطل على ضفة مياه ضحلة، تسبح قريبا منه سبع بطات، جاءت تلك الفتاة عارية كما حلم جميل، عشرين...
-
الجنس المقدّس فرح جبر كيف نكتب عن علاقة الجنس بالدين؟ من أي باب ندخل في لب هذا الموضوع المعقد والشامل؟ كيف نصل الى الاستنتاجات الوافية حو...
-
تأملات تراثية في التعابير الجمالية لجسد المرأة أ. د. علي أسعد وطفة يتأصل الجمال في طبيعة الإنسان فالله قد خلق الانسان على صورته وهو جمي...
-
قصــــــــــائد إفرات يروشالمي المعروفة باسم شيـــــز shez ترجمة نائل الطوخي كسك عضاض "كسك عضاض"، قالها بصوت عال. "...
-
الحبيب السالمي حكاية سعاد قصة قصيرة يسمونها "قحبة بلفيل" ولكني احبها سعاد غرس الله. احب ابتسامتها. احب جرأتها. صوتها. حركة يدي...
-
إبراهيم طوقان يـــــــا شهر ايّـــــار فل وورد ووغيد في البجامات يا شهر ايار يا شهر الكرامات واتلو الزبور كتابا غير ذي عوج هيهات مثله...
-
خطبة داعرة لأحد الأئمة مأخوذة من كتاب “نواضر الأيك في معرفة النيك”! تأليف الإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الحمد...
-
رسالة حبي المدينية إلى ابنتها من كتاب الإمتاع لصالح الورداني في وصية حبيبة المدنية انه قالت لابنتها قبل أن تهدى إلى زوجها:أني أوصيك بوص...
-
نساء صنعن أيامي حازم سليمان صغيرات، كبيرات، خبيثات، طيبات، بائسات، بارعات، حنونات، قاسيات، جميلات، بشعات، صادقات، مدَّعيات، عاهرات أو ...
-
2 من كتاب : نزهة الجلساء في أشعار النساء السيوطي مهجة بنت التياني القرطبية مهجة بنت التياني القرطبية. قال في المغرب: من أهل المائة ال...
الثلاثاء، 21 ديسمبر 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق