المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 21 ديسمبر 2010

الحبّ في التراث العربي الإسلامي
د. عبد الكريم اليافي


يطلعنا علم السكان الحديث أن مولوداً يولد كل ثانية تقريباً في العالم.

هذا المولود نشأ عن الحب بل عن الوصال في الحب. ولكن الوصال في الحب الذي نشأ عنه الحمل قد تقدم عليه ورافقه وتأخر عنه عدد كثير من أحوال الوصال الجاري في ظل الحب. ونستطيع أن نتخيل في كل لحظة من اللحظات الزمنية مدى الحب الواسع المنتشر في الأرض بين الناس.

وقد نتجاوز بالخيال النوع الإنساني فنتصور أحول الحيوان بأنواعه المختلفة من ثدييات وطيور وأسماك وبرمائيات وزواحف إذا اقتصرنا على الفقاريات فقط دون ذكر المفصليات والرخويات وغيرها فتتسع بنا آفاق الحب ونزوع الكائنات بعضها إلى بعض واعتناقها َزوجين زوجين داخل النوع أو الصنف.

وقد يتخطى الخيال بنا أكثر من ذلك فنفكر في أنواع النبات وفصائله وتكاثره المتعدد الأشكال.

كذلك قد نتفكر في علاقات الأجسام المادية بعضها ببعض بل في العناصر الدقيقة الفيزيائية التي تتألف زوجين زّوجين..

وعندئذٍ تتضح لنا فكرة الشاعر الإسلاميّ عبد الرحمن الجامي في مقدمة كتابه ليلى والمجنون حين شبه هذا العالم ببستان الحب وشبه القبة الزرقاء السماوية بنيلوفر هذا البستان. وكذلك نفهم كيف ذهب ابن سينا في رسالة صغيرة كتبها في العشق خلافاً لبعض المفكرين اليونان القدماء أمثال أمبدقلس الذي كان يرى البغض والكراهية ثاويين في أساس الكون والتجمع الإنساني فرأى الشيخ الرئيس سريان قوة العشق في جميع الكائنات من هويات عامة وبسائط حية وصور نباتية ونفوس حيوانية وأُناس ذكور وإناث.

ويتدرج مؤلف القانون والشفاء هكذا إلى ذكر عشق النفوس العليا التي ينعتها بالإلهية وينتهي إلى أن كل واحد من الموجودات يعشق الخير المطلق عشقاً غريزياً وأن الخير المطلق يتجلى لعاشقه إلا أن قبول الموجودات لتجليه واتصالها به على التفاوت وأن غاية القرب منه هو قبول لتجليه على الحقيقة أعني على أكمل ما في الإمكان.

كذلك يتضح لنا بعض أسرار الآية الكريمة: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون}.

لا بد لنا بعد هذا الاتساع من أن نعود فنضيق نطاق الموضوع ونبحث في الحب الإنساني وحده وفي بعض صفاته وأشكاله. ولذلك نعتمد تحليل أبي حامد الغزالي للمحبة في كتاب المحبة والشوق والإنس والرضا من سفره الواسع الكبير إحياء علوم الدين. فقد بيَّن أول الأمر أن المحبة مقترنة بالمعرفة والإدراك فلا يتصف جماد بالحب مثلاً. وتنقسم المدركات " إلى ما يوافق طبع المدرك ويلائمه ويلذه وإلى ما ينافيه وينافره ويؤلمه وإلى ما لا يؤثر منه بإيلام والذاذ. فكل ما في إدراكه لذة وراحة فهو محبوب عند المدرك، وما في إدراكه ألم فهو مبغوض عند المدرك، وما يخلو عن استعقاب ألم ولذة لا يوصف بكونه محبوباً ولا مكروهاً. فإن كل لذيذ محبوب عند الملتذ به. ومعنى كونه محبوباً أن في الطبع ميلاً إليه ومعنى كونه مبغوضاً أن في الطبع نفرة عنه. فالحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فإن تأكد ذلك الميل وقوي سمي عشقاً".

ثم يرى أبو حامد " أن الحب لما كان تابعاً للإدراك انقسم بحسب المدركات والحواس.

فلكل حاسة إدراك لنوع من المدركات، ولكل واحد منها لذة في بعض المدركات. وللطبع بسبب تلك اللذة ميل إليها فكانت محبوبات عند الطبع السليم. فلذة العين في الإبصار وإدراك المبصرات الجميلة والصور المليحة الحسنة المستلذة. ولذة الأذن في النغمات الطيبة الموزونة. ولذة الشم في الروائح الطيبة. ولذة الذوق في الطعوم. ولذة اللمس في اللين والنعومة".

ويقرر الغزالي تمهيداً لما يريد الانتهاء إليه أن المحبوب الأول عند كل حي نفسه وذاته أي أن في طبعه ميلاً إلى دوام وجوده. فدوام الوجود محبوب، وكذلك كمال الوجود لأن الناقص فاقد للكمال. ويترتب على هذا ميل الإنسان إلى من يحسن إليه ثم الميل إلى الشيء بذاته كحب الأشياء المتحلية بالحسن والجمال والكمال.

ثم يترقى مؤلف الإحياء فيقرر أن الجمال والحسن ليس مقصوراً على تناسب الخلقة والشكل وحسن اللون بل هو موجود في غير المحسوسات إذ يُقال هذا خلق حسن وهذا علم حسن وهذه سيرة حسنة وهذه أخلاق حسنة. وإنما الأخلاق الجميلة يراد بها العلم والعقل والعفة والشجاعة والتقوى والكرم والمروءة وسائر خلال الخير. وشيء من هذه الصفات لا يدرك بالحواس الخمس بل يدرك بنور البصيرة الباطنة. وكل هذه الخلال الجميلة محبوبة، والموصوف بها محبوب بالطبع عند من عرف صفاته. وكذلك ينضم إلى ما سبق من أسباب الحب ائتلاف النفوس وتناسبها.

ثم إن الجمال والحسن وسائر الصفات الجميلة الحسنى التي هي في أقصى درجات الكمال لا يتصور اجتماعها إلا في حق الله تعالى. فلا يستحق المحبة بالحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى.

وهكذا يتبين في هذا التحليل المتعمق والترتيب الصاعد ارتكاز الحضارة العربية الإسلامية على النظر المتفائل إلى الكون لأن الخير والجمال والكمال هي الأمور الموجهة لتصرف الناس وأعمالهم والمعيَّنة لغاياتهم وأهدافهم إذ هم جميعاً في غضون حيواتهم يتشوفون للقيم العليا التي هي من خصائص الكيان الإنساني ومن مسوغات رفعته وعليائه.

في كل ثانية يولد مولود ولكن في كل دقيقة يتوفى متوفى. إلى جانب الولادة تثوي الوفاة. إلى جانب الحب يسري الهلاك. فالحبُ والهلاك والحياة والموت صنوان متآخذة متداخلة هي كلها مختلطة في قوام الكون ونسغ تركيبه ولكن الناس تحامياً لفكرة الهلاك والموت يستأنسون بالحب والحياة ويجرون على سننهما وأحكامها. ولذلك نجد المؤلفين في تاريخ التراث العربي قد أكثروا من تناول أخبار الحب وكتبوا فيه الكتب الكثيرة سواء أقصروها عليه أم أدمجوها في مؤلفاتهم المتعددة.


بعض كتب التراث:

كتب التراث التي تبحث الحب الإنساني كثيرة ولا بأس أو نورد أسماء بعضها المشهور ليظهر اتساع هذا البحث ومكانته في الحضارة العربية الإسلامية. فمن أقدم هذه الكتب:

1-كتاب "الزهرة":
لمؤلفه محمد بن داود الأصفهاني المعروف بالظاهري المتوفى 296 أو 297هـ من أكابر علماء عصره وفقهائهم وأذكيائهم يقول في مقدمته:

" استودعته مائة باب ضمنت كل باب مئة بيت أذكر في خمسين باباً جهات الهوى وأحكامه وتصاريفه وأحواله وأذكر في الخمسين الثانية أفانين الشعر الباقية وأقتصر في ذلك على قليل من كثير وأقتنع من كل فن باليسير إذ كان ما نقصده أكثر من أن يتضمنه كتاب أو يعبر عن حقيقته خطاب". ثم يقول: " ومن لم يرجَ الكمال في الإكثار كان حقيقياً أن يقنع بالاختصار".

هذا وللمؤلف قصة مشهورة في الحب مذكورة في الكتب. وهو معاصر لابن الرومي، حكى أبو بكر بن أبي الدنيا أنه حضر مجلس محمد (في الفتيا) فجاءه رجل فدفع إليه رقعة فأخذها وتأملها طويلاً وظن تلامذته أنها مسألة فقلبها وكتب في ظهرها ودفعها فإذا الرجل علي بن العباس المعروف بابن الرومي الشاعر وإذا في الرقعة مكتوب:
يا بن داود يا فقيه العراق
افتنا في قواتل الأحداق
هل عليهن في الجروح قصاص
أم مباح لها دم العشاق

وإذا الجواب:
كيف يفتيكم قتيل صريع
بسهام الفراق والاشتياق
وقتيل التلاق أحسن حالاً
عند داود من قتيل الفراق

2- كتاب " طوق الحمامة في الألفة والألاَّف"
للإمام أبي محمد علي بن حزم الأندلسي المتوفى سنة 456 كان وزيراً للمستظهر بالله ثم للمعتد بالله - كتبه لمن استكتبه في هذا الموضوع فهو يقول في المقدمة: " كلفتني - أعزك الله - أن أصنف لك رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة لا متزيداً ولا مفنناً، لكن مورداً لما يحضرني على وجهه وبحسب وقوعه حيث انتهى حفظي وسعة باعي فيما أذكره فبادرت إلى مرغوبك ولولا الإيجاب لك لما تكلفته".

قسم كتابه على ثلاثين باباً في أصول الحب وفي أعراضه وصفاته المحمودة والمذمومة والآفات الداخلة عليه. وهو من أجود الكتب المفيدة في هذا المجال إذ يتصف بالبحث والتنقير واعتماد المشاهدة والملاحظة إلى الجوانب الأدبية والشعرية. ومن مثل صاحب كتابي " المحلَّى" و" الفِصَل" في جودة التأليف وسعة الاطلاع ودقة الكتابة ولقانة البديهة وحسن الذاكرة؟!

ولابن حزم رسالة صغيرة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل خصص فصلاً فيها لشرح أنواع المحبة طبعت عدة مرات ثم طبعت في مجموعة الروائع الإنسانية (السلسلة العربية) بإشراف الأونيسكو بعنوان كتاب الأخلاق والسير وترجمت إلى الفرنسية. وفي المكتبة الظاهرية مخطوطتان لها يرى مؤلفها أن " المحبة كلها جنس واحد. ورسمها أنها الرغبة في المحبوب وكراهة منافرته والرغبة في المقارضة منه بالمحبة. وإنما قدر الناس أنها تختلف من أجل اختلاف الأغراض فيها. وإنما اختلفت الأغراض من أجل اختلاف الأطماع وتزايدها وانحسامها. فتكون المحبة لله عز وجل وفيه وللاتفاق على بعض المطالب وللأب والابن والقرابة والصديق وللسلطان ولذات الفراش وللمحسن والمأمول وللمعشوق. فهذا كله جنس واحد اختلفت أنواعه كما وصفت لك على قدر الطمع فيما ينال فلذلك اختلفت وجوه المحبة".

3- كتاب " مصارع العشاق في شارع الأشواق":
للقاضي أبي المعالي عبد العزيز بن عبد الملك المتوفى سنة 494.

4- " مصارع العشاق":
للشيخ أبي محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج البغدادي المتوفى سنة 500 طبع في مطبعة الجوانب عام 1302هـ وهو متداول وقد عقده مؤلفه على اثنين وعشرين جزءاً كتب على وجه كل جزء ثلاثة أبيات من نظمه. وعلى وجه الجزء الأول هذه لأبيات:
هذا كتاب مصارع العشاق
صرعتهم أيدي نوى وفراق
تصنيف من لدغ الفراق فؤاده
وتطلَّب الراقي فعزّ الراقي
فإذا تصفحه اللبيب رثى لهم
أسرى الهوى أيسوا من الإطلاق

5- "منازل الأحباب ومنازه الألباب":
لشهاب الدين محمود بن سلمان بن فهد الحلبي ثم الدمشقي الحنبلي صاحب ديوان الإنشاء المتوفى بدمشق سنة 725.

6- "روضة المحبين ونزهة المشتاقين":
للشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 أوله: " الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيلاً، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليلاً" ثم يقول والضمير يرجع إلى المحبة ويستعملها بالمعنى الواسع الذي يشبه استعمال فرويد لها أو كارل غستاف يونغ مستجيباً للفقرات المزدوجة بالسجع.

"وصرَّفها أنواعاً وأقساماً بين بريته وفصلها تفصيلاً فجعل كل محبوب لمحبه نصيباً، مخطئاً كان أو مصيباً وجعله منعَّماً أو قتيلاً. فقسمها بين محب الرحمن ومحب الأوثان ومحب النيران ومحب الصلبان ومحب الأوطان ومحب الإخوان ومحب النسوان ومحب الصبيان ومحب الأثمان ومحب الإيمان ومحب الألحان ومحب القرآن، وفضل أهل محبته ومحبة كتابه ورسوله على سائر المحبين تفضيلاً. فبالمحبة وللمحبة وجدت الأرض والسموات وعليها فطرت المخلوقات ولها تحركت الأفلاك الدائرات، وبها وصلت الحركات إلى غاياتها واتصلت بداياتها بنهاياتها. وبها ظفرت النفوس بمطالبها. وحصلت على نيل مآربها وتخلَّصت من معاطبها".

وجعل ابن قيم الجوزية كتابه تسعة وعشرين باباً ذكر في الباب الأول أسماء المحبة ووجد أن العرب قد وضعت لها قريباً من ستين اسماً يذكرها المؤلف ثم يشرع في الباب الثاني في شرح اشتقاق تلك الألفاظ ويوضح في الباب الثالث نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض ثم يعالج في الأبواب الباقية جوانب المحبة وما يتعلق بها.

7- " الواضح المبين فيمن استشهد من المحبين":
لعلاء الدين مُغَلطاي بن قليج المتوفى سنة 792.

8- " ديوان الصبابة ":
لشهاب الدين أحمد بن أبي حجلة المغربي مولداً الدمشقي منشأ نزيل القاهرة المتوفى سنة 776. يستهله بقوله: " الحمد لله الذي جعل للعاشقين بأحكام الغرام رضا، وحبب إليهم الموت في حب من يهوونه فلا تكن يا فتى بالعذل معترضاً. فكم فيه من عاشق ومحب صادق:
رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا
فسام صبراً فأعيا نيله فقضى
ثم يقول: "أما بعد فإن كتابنا هذا كما قيل:
كتاب حوى أخبار من قتل الهوى
وسار بهم في الحب في كل مذهب
مقاطيعه مثل المواصيل لم تزل
تشبب فيه بالرباب وزينب
فهم ما هم، (تعرفهم بسيماهم)(1). قد تركهم الهوى (كهشيم المحتظر)(2)، وأصبحوا من علة الجوى على قسمين: {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر}(3) فهم ما بين قتيل وشهيد، وشقي وسعيد، على اختلاف طبقاتهم وأشكالهم، وتباين مراتبهم وأحوالهم"

وهو يشير إلى اطلاعه على كتاب " منازل الأحباب ومنازه الألباب" وعلى كتاب " طوق الحمامة"، ويدعي تفضيل كتابه عليهما فيقول: " فربع كتابنا بذكر العامرية معمور، وهو بالنسبة إلى ما ألفه الشهاب محمود مشكور. ومن وقف عليه علم صحة هذا الكلام، وأنشد في تصديق هذه الدعوى (إذا قالت حذام..)(4) مؤلف طوق الحمامة بالنسبة إلى حجلته بحجل، وصاحب منازل الأحباب ممن (عرف المحل فبات دون المنزل)(5). ثم يردف: فإن قلت: (الفضل للمتقدم)(6) و(هل غادر الشعراء من متردم)(7) قلت: نعم! (.. في الخمر معنى ليس في العنب)(8)، وأحسن ما في الطاووس الذنب".

ومن الجدير بالذكر أن ابن أبي حجلة ولد في السنة التي توفي فيها الشهاب محمود صاحب كتاب " منازل الأحباب".

وفي ديوان الصبابة فقرات كثيرة تشبه ما ورد في كتاب " روضة المحبين". وكان القدماء كثيراً ما ينقل بعضهم من بعض.

9- "مشارع الأسواق إلى مصارع العشاق ومثير الغرام إلى دار السلام":
لأحمد بن إبراهيم المعروف بابن النحاس الدمشقي المتوفى سنة 814- أو 838 وهو في مجلد كبير حافل في معناه كما يقول مؤلف " الضوء اللامع " وقد اختصره مؤلفه.

10- "الفائق في المواعظ والرقائق":
للشيخ صدر الدين محمد بن محمد البارزي المتوفى سنة 857 التقطه على حد تعبير حاجي خليفة من كتاب مصارع العشاق في شارع الأشواق للقاضي أبي المعالي.

11- "أسواق الأشواق من مصارع العشاق":
لإبراهيم بن عمر بن حسن الرُبَاط البقاعي نزيل القاهرة ثم دمشق المتوفى سنة 885.

وقد عمد مؤلفه إلى كتاب ابن السراج فرتبه وهذبه وزاده من نوادر الأخبار وأدخل فيه جميع كتاب الحافظ مغلطاي المسمى الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين، وذكر جميع حكايات منازل الأحباب ومنازه الألباب لشيخه الشهاب فجاء في مقدمة وعشرة أبواب على حد وصف حاجي خليفة له.

12-"السلسل الرائق المنتخب من الفائق":
للشيخ إبراهيم بن يوسف المعروف بابن الحنبلي الحنفي المتوفى سنة 959 انتخبه مؤلفه كما أشار هو نفسه من كتاب "الفائق".

13-" تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق":
للشيخ داود الأنطاكي الضرير مؤلف التذكرة الطبية المتوفى سنة 1008. استهله بقوله:

"الحمد لله الذي أطلع في بروج اعتدال القدود شموس المحاسن والجمال وأهلٌ في منازل السعود بدور اللطائف والكمال، وزين أغصان القدود برمان النهود، ورياض الوجوه بنرجس اللحاظ وورد الخدود، وألف بين ما نظم في الثغور وقلائد النحور، وجعل تسريح الأبصار لذوي البصائر ولطافة الأفكار من أسباب الافتتان بتأمل الحسان، فنزَّلهم وإن اختلفت أغراضهم منزلة الأغراض لرشق قسي الحواجب بسهام الألحاظ" وقد اعتمد هذا المؤلف العلامة على كتاب " أسواق الأشواق" المأخوذ من كتاب " مصارع العشاق"، وكذلك جمع فيه " ديوان الصبابة". وهكذا يبدو بين طوائف كتب الآداب شجرات الأنساب بعضها يستفيد ويتغذى من بعض في شتى الأغراض والآراب.

هذا ونلاحظ أن هؤلاء المؤلفين من الشيوخ والفقهاء والعلماء. وكل هذه الكتب في الحب الإنساني يضاف إليها ما جاء من أخبار العشق والعشاق في كتب الأدب ولا سيما الموسوعية ككتاب الأغاني وجميع الروايات والسير الشعبية كألف ليلة وليلة وجميع دواوين الشعراء، ثم فوق ذلك كله كتب الحب الصوفي الكثيرة التي لا تكاد تحصى(9).


ملاذُ الحب ومآسيه وتحليل الألفاظ الدالة عليه:

الحضارة العربية الإسلامية متوازنة العناصر متعادلة الجوانب هي حضارة الوسط.

{وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}(2-143) والوسط هنا ليس معناه الفاتر بين طرفين ولكن معناه ذروة الجبل بين منحدرين، معناه مركز الدائرة الذي هو السر في وجودها. والناس في نظر تلك الحضارة مسؤولون عن عمارة الدنيا وعمارة الآخرة. عن عمارة الدنيا المؤدية إلى عمارة الآخرة. والطيبات فيها مباحة للناس في حدود الشرع. تشير مباهج الدنيا من بعيد إلى مباهج الآخرة الصافية. {قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق. قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة}(7-32).

فلا غور أن يحفز الدين الإسلامي على المحبة بمعناها الواسع وعلى الحب الخاص أي الحب في الزواج. ولهذا لهج الشعراء بالتنويه بالجمال وآثاره في القلوب والأحشاء وفاكهوا الفقهاء وتحرشوا بهم في هذا السبيل. وقد مر تحرش ابن الرومي بالفقيه الظاهري محمد بن داود. وينسب " تزيين الأسواق" إلى أبي نواس هذه الأبيات الفكهة وليس في ديوانه(10):

حدثنا الخفاف عن وائل
وخالد الحذاء عن جابر
ومسعر عن بعض أصحابه
يرفعه الشيخ إلى عامر
وابن جريج عن سعيد وعن
قتادة الماضي وعن غابر
قالوا جميعاً أيما طفلة
عُلِّقها ذو خلق طاهر
فواصلته ثم دامت له
على وصال الحافظ الذاكر
كانت لها الجنة مبذولة
تمرح في مرتعها الزاهر
وأي معشوق جفا عاشقاً
بعد وصال ناعم ناضر
ففي عذاب الله مثوى له
بعداً له من ظالم غادر

الجنة في الآخرة مبذولة للحبيبة الساذجة المسعفة المواصلة وهي مهددة عند جفائها بالجحيم. ولكن الشاعر يبحث وهو - كما يدعي – ذو الخلق الطاهر فيلتمس أن يشم روائح الجنة في الدنيا، وما ندري ما شأنه في الآخرة.

وقد نوه الشعراء بالحب الحسي والحب الروحي معاً، وأشادوا بالإخلاص فيها. حسب المرء أن يصافي حبيباً واحداً يحرص عليه كل الحرص ويتحامى فيه الحساد والعذال.

قد تشف الروايات والقصص الشعبية عن مطامح الناس وتصور ميولهم ومشاعرهم وصبواتهم. تطالع في الليلة الثانية عشرة بعد المائتين في رواية ألف ليلة وليلة هذه القطعة الجميلة:

زر من تحب ودع مقالة حاسد
ليس الحسود على الهوى بمساعد
لم يخلق الرحمن أحسن منظراً
من عاشقين على فراش واحد
متعانقين عليهما حلل الرضا
متوسدين بمعصم وبساعد
وإذا صفا لك من زمانك واحد
فاحرص عليه وعش بذاك الواحد

كما نطالع في الليلة نفسها هذه المداعبة بين حبيبين تختبئ الحبيبة ويبحث عنها حبيبها في كل مكان فلا يجدها. كأنما كانا يلعبان وهما يتضاحكان في ميعة الصبا وتمام الشباب:

قالت وقد فتشت عنها كل من
لاقيته من حاضر أو بادي
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه
ترني فقلت لها وأين فؤادي

وفي بحور الشعر العربي الواسعة تنويه بالحب ومباهجه كما فيه تنديد بشدائده ومصائبه ولعناته.


مما جاء فيه تنويهاً:

ولا خير في الدنيا بغير صبابة
ولا في نعيم ليس فيه حبيب

وأيضاً:

وما طالبت الدنيا بغير محبة
وأي نعيم لامرئ غير عاشق

وأيضاً:

وما ذاق طعم العيش من لم يكن له
حبيب إليه يطمئن ويسكن

ويخاطب العازب نفسه قائلاً:

اسكن إلى سكن تلذ بحبه
ذهب الزمان وأنت خال مفرد

إلى غير ذلك مما هو معروف ومتداول يملأ الكتب الأدبية.


أما التنديد بالحب فهو كثير أيضاً:

وما في الأرض أشقى من محب
وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل حين
مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي أن نأى شوقاً إليه
ويبكي إن دنا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التنائي
وتسخن عينه عند التلاقي


إن أهل العشق أذلاء، في الدنيا والآخرة:

مساكين أهل العشق حتى قبورهم
عليها تراب الذل بين المقابر

ذلك أن العشق عذاب في الدنيا يمنع صاحبه لذة الكرى، وهو يصرف صاحبه أيضاً عن الأعمال الصالحة:

العشق مشغلة عن كل صالحة
وسكرة العشق تنفي لذة الوسن

هذان الجانبان المتقابلان المتضادان للمحبة والعشق لا يكفي عرضهما دون تدقيق وتفصيل. واللغة العربية بثرائها وغناها وسعتها تعين بالألفاظ التي وضعتها لمعاني المحبة على هذا التفصيل والتدقيق. إن تلك الألفاظ العربية التي ليس لها مقابل في اللغات الأجنبية قريبة جداً من التحليل النفسي الذي نجده في علم النفس الحديث. بل إن هذا العلم إذا تقدم في مختلف ميادينه محتاج أن يقتبس من اللغة العربية مختلف مفرداتها الدقيقة التي سبقت إلى وضعها.

نلاحظ قبل كل شيء أن لفظ الحب مؤلف من حرفين الحاء ومخرجه أقصى الحلق والباء ومخرجه بين الشفتين. ولما كانت أسماء الأشياء كلها تخرج بين الحلق والشفتين لف الحب جميع الكائنات عند الدلالة عليها باللفظ وأتى عليها. ومن المناسب دائماً في اللغة العربية أن ننتبه إلى مخارج الحروف ودلالات ترتيبها فإن ذلك من أسرار هذه اللغة العظيمة.

لنتأمل الآن دون مغالاة بعض معاني تلك الألفاظ التي تدخل تحت لواء الحب ولنعتمد على كتاب روضة المحبين وما جاء فيه في بيان اشتقاق تلك الأسماء فنحن مدينون لمؤلفه الشيخ الفقيه في هذا البيان والإيضاح. ولكن مثل ذلك ورد في "ديوان الصبابة" أيضاً.

قالوا في المحبة التي هي أم هذه الأسماء إنها الميل الدائم بالقلب الهائم وإيثار المحبوب على جميع المصحوب، وموافقة الحبيب في المشهد والمغيب. وقيل أن تهَبَ كلك لمن أحببته فلا يبقى منك شيء. وقيل هي نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وقيل ذكر المحبوب على عدد الأنفاس وقيل عمى القلب عن رؤية غير المحبوب وصممه عن سماع العذل فيه. وفي الحديث حبك الشيء يعمي ويصم. وقيل ميلك إلى المحبوب بكليتك وإيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سراً وجهراً ثم علمك بتقصيرك في حبه.

والود خالص الحب وألطفه وأرقه وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة.

والخلة توحيد المحبة. فالخليل هو الذي توحد حبه لمحبوبه وهي رتبة لا تقبل المشاركة.

والرسيس الشيء الثابت فرسيس الحب ثباته ودوامه.

قال ذو الرمة:

إذا غير النأي المحبين لم يكد
رسيس الهوى من حب مية يبرح

وأما الهوى فهو ميل النفس إلى الشيء وقال اللغويون هوي يهوى هوى كعمي يعمى عمى وأما هوى بالفتح يهوي فهو السقوط ومصدره الهُويّ بالضم وقد يطلق الهوى على الحبيب فيقال هذا هوى فلان وفلانة هواه أي مهويته وحبيبته.

وأما الصبابة فهي رقة الشوق وحرارته. يقال رجل صب أي عاشق مشتاق:

تشكى المحبون الصبابة ليتني
تحملت ما يلقون من بينهم وحدي

وأما الشغف فمعناه بلوغ الحب شغاف القلب وهو جلدة دونه كالحجاب.

والشعف مثله أو هو إحراق القلب والأمراض.

وأما الوجد فهو الحب الذي يتبعه الحزن وهو يطلق على محبة معها فقدٌ، فقدٌ يوجب الحزن.

وأما الكلف فأصله من الكلفة التي هي المشقة ومنه تكلفت الأمر تجشمته.

وأما التتيم فهو التعبد من قولهم تيَّمه الحب إذا عبَّده وذللـه فهو متيم.

وأما العشق فهو أمرُّ هذه الأسماء وأخبثها كما يقول ابن قيم الجوزية. قيل هو مأخوذ من شجرة يقال لها عشقة تخضر ثم تدق ثم تصفر وهي تتعلق بما يليها من أشجار والعاشق اسم الفاعل والمعشوق اسم المفعول وكلاهما عشيق يطلق اللفظ على العاشق والمعشوق.

واختلف الناس هل يطلق هذا الاسم في حق الله تعالى؟ فقالت طائفة من الصوفية لا بأس بإطلاقه. وقال جمهور الناس لا يطلق ذلك في حقه سبحانه وذكروا سبب المنع على ثلاثة أقوال أحدها: عدم التوقيف بخلاف المحبة. الثاني: أن العشق إفراط المحبة ولا يمكن ذلك في حق الرب فإن الله لا يوصف بالإفراط في الشيء ولا يبلغ عبده ما يستحقه من حبه فضلاً أن يقال أفرط في حبه. الثالث: أنه مأخوذ من التغير كما يقال للشجرة المذكورة عشقة.

وأما الجوى فهو الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن.

وأما الدنف فهو المرض الملازم وقد دنف المريض بالكسر وأدنف إذا ثقل وأدنفه المرض يتعدى ولا يتعدى فهو مدنف ومدنَف. وكأنهم استعاروا هذا الاسم للحب اللازم تشبيهاً له به. ويقال رجل دنَف بفتح النون وامرأة دنف وقوم دنف يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. فإن قلت رجل دنِف بكسر النون قلت امرأة دنفة أُنثت وثنيت وجمعت.

وأما الشجو فهو حب يتبعه هم وحزن.

والشجى ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره، ورجل شج أي حزين وامرأة شجية على وزن فَعِلة. فأطلق هذا الاسم على الحب للزومه كالشجي الذي يعلق بالحلق وينشب فيه.

وأما الشوق فهو سفر القلب إلى المحبوب. وهو من أسماء الحب. قال في الصحاح: الشوق والاشتياق نزاع النفس إلى الشيء. يقال شاقني الشيء يشوقني فهو شائق وأنا مشوق وشوقني فتشوقت إذا هيج شوقك وجاء لفظ شيق بمعنى مشتاق لا بمعنى شائق.

قال الشريف الرضي:

وما تلوَّم جسمي عن لقائكم
إلا وقلبي إليكم شيِّق عجل

واختلف في الفرق بين الشوق والاشتياق أيهما أقوى فقالوا الشوق أقوى فإنه صفة لازمة والاشتياق فيه نوع افتعال كما يدل عليه بناؤه كالاكتساب ونحوه. وقالت فرقة الاشتياق أقوى لكثرة حروفه. وكل زيادة في المبنى زيادة في المعنى. وقالت جماعة الاشتياق يكون إلى غائب وأما الشوق فإنه يكون للحاضر والغائب.

واختلف أرباب الشوق هل يزول الشوق بالوصال أو يزيد؟ فقالت طائفة: يزول فإن الشوق سفر القلب إلى المحبوب فإذا وصل انتهى السفر. قالوا: ولأن الشوق إنما يكون لغائب فلا معنى له مع الحضور. ولهذا إنما يقال للغائب: أنا إليك مشتاق. وأما من لم يزل حاضراً مع المحب فلا يوصف بالشوق إليه. وقالت طائفة: بل يزيد بالقرب واللقاء واستدلوا بقول الشاعر:

وأعظم ما يكون الشوق يوماً
إذا دنت الخيام من الخيام

قالوا: ولأن الشوق هو حرقة المحبة والتهاب نارها في قلب المحب وذلك مما يزيده القرب والمواصلة. والصواب في رأي ابن قيم الجوزية أن الشوق الحادث عند اللقاء والمواصلة غير النوع الذي عند الغيبة عن المحب. قال ابن الرومي:

أُعانقها والنفس بعد مشوقة
إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاها كي تزول حرارتي
فيشتد ما ألقى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بي من الهوى
ليشفيه ما ترشف الشفتان
كأن فؤادي ليس يشفي غليله
سوى أن يُرى الروحان يمتزجان

شعر ابن الرومي يجنح إلى وحدة الحبيبين وقد عبر عنها شاعر آخر مجهول ببيتين تمثل بهما الحلاج:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا

ولكن هل يستمر الحب في هذا الاتحاد الذي يقع في ذروة الوصال الناجح لو حصل؟ هيهات! ذلك أن توهج الشعور المتحد المحتدم لا يدوم إلا لمعة بارق ثم ينفصم الحبيبان في الحب الإنساني ويعود القلق والسعي مرة ثانية وسؤال المحب نفسه عن مشاعر المحبوب بعد أن تملكه فينة من الوقت. وقد قال العرب في هذا المعنى: " إذا صحّ الظفر وقعت الغير". ذلك أن المحبوب إنسان له وجود متميز وهو ذو حرية. النزوع إلى تملك هذه الحرية مشكلة كبيرة. لو تم لأصبح الحبيب شيئاً مادياً وغدا الحب عطفاً أو ازدراء فتغير معناه وخرج عن نطاق المحبة.

إن في الشوق والحب خدعة. كلما اقترب المحب من حبيبه نأى الحبيب على رغم الوصال وابتعد بهذه الحرية. وقد أطلق العرب على هذا النوع من الحب لفظ الخلابة.

وهو الحب الذي وصل إلى الخلب وهو الحجاب بين القلب والحشا. ولكن الخلابة أيضاً معناها الخداع لأن الحب يخدع ألباب أربابه. وفي المثل " إذا لم تغلب فأخلب"، أي إذا أعياك الأمر مغالبة فاطلبه مخادعة. والخَلِبة الخداعة والخلاب الخداع الكذاب. ومنه البرق الخلَّب الذي لا غيث فيه كأنه خادع. والخَلَّب أيضاً السحاب الذي لا مطر فيه. ويعلق ابن قيم على هذا اللفظ فيقول: والحب أحق ما يسمى بهذا الاسم لأنه يعمي ويصم ويخدع لب المحب وقلبه.

خداع الحب هذا هو الذي يولد الوساوس والهم والغم. ولذلك نسب العرب إلى الحب بلابل فقالوا بلابل الحب وبلابل الشوق وهي الهم ووسواس الصدر وليس ذلك بسهل.

إنما هو العذاب اللازب. ولذلك سمُّوا ما يلقاه المحب أيضاً تباريح الشوق وتباريح الحب وتباريح الجوى وهي الشدائد والدواهي.

وقد يشعر المحب بالندم يساور نفسه وبالحزن تحجب سحابته صفاء بصيرته. وهذا هو السدم فهو الحب الذي يتبعه ندم وحزن أو يشعر المحب كأنه في لج من الاضطراب والغفلة فهذه غمرات الحب التي تشبه غمرات الموت أي شدائده.

وكثيراً ما يتغير لون المحب إذا رأى محبوبه فجأة فيرتاع ويصفر لونه ويبهت.

وما هو إلاَّ أن أراها فجاءة
فأبهت حتى لا أكاد أجيب

وهذا هو الوهلَ وأصله الفزع والروع يُقال وهل يوهل وهو وهِلٌ ومستوهِل.

والشجن من أسماء الحب لأن الشجن الحاجة حيث كانت وحاجة المحب أشد شيء إلى محبوبه.

قال الراجز:

إني سأبدي لك فيما أبدي
لي شجنان شجن بنجد
وشجن لي ببلاد السند

وقد مرَّ قيام الحب على العوز وعلى الحاجة. ولكن للشجن معنى آخر وهو الحزن. والحب فيه الأمران الأمرّ أن فيه الحاجة وفيه الحزن جميعاً.

وغالباً ما يساور المحب الألم ويلسع فؤاده. وهذا هو اللاعج. ويقال هوى لاعج لحرقة الفؤاد من الحب.

والألم قد يجتمع معه المرض وهذا هو الوصب.

وأما الكمد واللذع والحرق والسهد والأرق واللهف والحنين والاستكانة واللوعة والفتون والخبل فهي جميعاً من أحكام الحب وآثاره.

وأما الداء المخامر فهو من أوصافه وسمي مخامراً لمخالطته القلب والروح.

وأما الغرام فهو الحب اللازم ومنه قولهم رجل مغرم من الغرم أو الدين والغرام أيضاً الشر الدائم والعذاب ومنه قوله تعالى: {إن عذابها كان غراماً}.

والهيام أشد العطش وهو أيضاً كالجنون من العشق يُقال هام على وجهه هيماً وهيماناً.

والتدليه ذهاب العقل من الهوى يقال دلهه الحب أي حيره.

والوله ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد ورجل واله وامرأة واله ووالهة.

والتعبد غاية الحب وغاية الذل يقال عبده الحب أي ذللـه وطريق معبد بالأقدام أي مذلل.

وآخر أنواع الحب الجنون. وأصل المادة من الستر في جميع تصاريفها. ومنه أجنه الليل وجنّ عليه إذا ستره ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه ومنه الجنة لاستتارها بالأشجار ومنه المجن لاستتار الضارب به والمضروب ومنه الجن لاستتارهم عن العيون بخلاف الإنس.

فإنهم يؤنسون أي يرون ومنه الجنة بالضم وهي ما استترت به واتقيت. وأجننت الميت واريته في القبر فهو جنين. والحب المفرط يستر العقل فلا يعقل المحب ما ينفعه ويضره فهو شعبة من الجنون.

على أن بعض الشعراء يرى الجنون أخف من العشق.

قالت جننت بمن تهوى فقلت لها
العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه
وإنما يصرع المجنون في الحين

ليست هناك تعليقات: